في مشهد يعكس التدهور الحاد في دولة القانون بتونس، أصدرت المحكمة الابتدائية حكمًا بسجن المفكر والسياسي التونسي راشد الغنوشي عامين، بسبب تبرعه بجائزة دولية للسلام إلى الهلال الأحمر التونسي. الغنوشي، الذي يُعد من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في العالم العربي، يواجه محاكمات متتالية في ظل ما يصفه مراقبون بأنه حملة تصفية سياسية يقودها قيس سعيّد ضد خصومه. الحكم الأخير لا يُقرأ في معزل عن سياق الانقلاب الدستوري الذي تشهده البلاد، والذي حوّل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء، إلى أدوات في يد السلطة الفردية.

 

تبرع بالسلام.. فحكم عليه بالسجن

 

الغنوشي تلقى الجائزة الدولية لنشر المبادئ الغاندية للسلام والتسامح عام 2016، كأول شخصية عربية تنال هذا التقدير، ليقرر فورًا التبرع بقيمتها، التي تجاوزت 14 ألف دولار، للهلال الأحمر التونسي دعمًا لنشاطه الإنساني. ما يفترض أن يكون محل تقدير وطني، تحوّل اليوم إلى تهمة قضائية. فبدل أن يُكرّم الرجل مجددًا، وجد نفسه في زنزانة جديدة من زنزانات الاستبداد القضائي.

 

قيس سعيّد.. من انقلاب دستوري إلى اغتيال معنوي للخصوم

 

منذ انقلاب 25 يوليو 2021، يسير قيس سعيّد في مسار واضح: تفكيك الدولة التونسية الحديثة، وتفريغ الديمقراطية من مضمونها، ومحاربة كل صوت معارض. الغنوشي، بصفته رئيس البرلمان المُجمّد وزعيم حركة النهضة، ظل في مرمى نيران النظام منذ اللحظة الأولى.

 

تُرك ليواجه سيلًا من القضايا الملفقة، وقرارات تجميد الأموال، وتحجير السفر، في محاولة واضحة لإقصائه سياسيًا وإنهائه معنويًا.

 

محاكمة الغنوشي اليوم ليست محاكمة قانونية، بل محاكمة لماضي تونس الديمقراطي، ولرموزها الذين وقفوا ضد الاستبداد.

 

قضاء تحت السيطرة: المسرحية القضائية في جلسة واحدة

 

الحكم بالسجن عامين صدر في أول جلسة حضرتها هيئة الدفاع، دون منحها أي فرصة حقيقية لإعداد مرافعتها.

 

هذا ما وصفته الهيئة بسابقة خطيرة، تكشف أن الحكم كان جاهزًا قبل الجلسة، وأن المحكمة لم تكن سوى واجهة لقرار سياسي اتُخذ مسبقًا.

 

الهيئة أشارت إلى سقوط الدعوى بمرور الزمن، وبطلان المحاضر التي استند إليها القاضي، وهو ما يجعل الحكم باطلًا قانونيًا، لكنه نافذ سياسيًا، لأنه يصدر في ظل منظومة لم يعد فيها للفصل بين السلطات أي وجود.

 

الغنوشي.. رهينة القضايا الكيدية وأحكام الانتقام

 

الغنوشي، البالغ من العمر 84 عامًا، لا يُحاكم اليوم على أفعال إجرامية، بل على تاريخه السياسي ودوره في مرحلة ما بعد الثورة. يُحاكم لأنه رفض الانقلاب، وواجهه بمواقف واضحة، ودعا إلى العودة للمسار الدستوري.

 

يواجه حُكمًا بالسجن 14 عامًا في ما يسمى "ملف التآمر 2"، و22 عامًا في قضية "أنستالينغو"، وقضية أخرى بسبب تصريحات في "المسامرة الرمضانية".

 

مجرد تصريح سياسي قد يُودي بك في تونس قيس سعيّد إلى السجن لسنوات، في انتكاسة غير مسبوقة لحرية التعبير وحقوق الإنسان.

 

الهلال الأحمر يتحول إلى تهمة.. وسعيّد يصادر العمل الإنساني

 

ما حدث في قضية التبرع بالمال للهلال الأحمر يكشف إلى أي حدّ انزلقت تونس في مهاوي العبث السياسي.

 

منظمة إنسانية معترف بها، تتلقى تبرعًا علنيًا في حفل رسمي، يتحول لاحقًا إلى دليل إدانة! هل وصل النظام إلى حد معاقبة العمل الخيري؟ هل باتت المساعدات الإنسانية تُصنف خطرًا على الأمن العام؟

 

في دولة سعيّد، كل شيء ممكن إذا كان مصدره سياسيًا لا يخضع للولاء الكامل.

 

الغنوشي عنوان أزمة وطن يعيش على هامش القانون

 

الرسالة التي يُراد إيصالها من خلال الحكم ضد الغنوشي واضحة: لا مكان لأي صوت حر، لا حماية لأي شخصية رمزية، ولا قانون يحكم هذا البلد سوى قانون السلطة الفردية.

 

تونس اليوم أمام مفترق خطير، حيث تُغتال العدالة على يد من يفترض به أن يحميها، ويُدفن التاريخ الديمقراطي الذي بُني بتضحيات أجيال، تحت أنقاض الشعارات الشعبوية والقرارات الارتجالية.