تشهد مدينة القاهرة الكبرى توسعًا غير مسبوق في سوق الإعلانات الخارجية، حيث ارتفع عدد اللوحات الإعلانية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس نشاطًا اقتصاديًا متصاعدًا وفرصًا استثمارية كبيرة، لكنه في الوقت ذاته يغذّي مخاوف جدية حول السلامة المرورية والتلوث البصري للمشهد الحضري.

 

هذا النمو السريع وغير المنظم يخالف ما نص عليه قانون تنظيم الإعلانات على الطرق العامة رقم 208 لسنة 2020، الذي دعا لرسم ضوابط واضحة تحكم أماكن وحجم ومدة وشدة إضاءة هذه الإعلانات، في سبيل الحفاظ على النسق العمراني والشكل الجمالي للمدينة. ورغم تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي التي تشدد على ضرورة الالتزام بقيم جمالية ومجتمعية، فإن الواقع يكشف غياب تطبيق هذه الضوابط مما أدى إلى انتشار فوضوي لهذه اللوحات والإعلانات، خاصة الشاشات الرقمية الضخمة التي تتغير محتوياتها بإيقاع سريع يشتت انتباه السائقين والمارة.

 

فوضى بصرية وتأثيرات على السلامة المرورية

 

يروي محمد حسن، سائق ميكروباص على خط «أكتوبر – رمسيس»، تجربته المروعة مع إحدى هذه الشاشات العملاقة التي تتابع طريقه على محور 26 يوليو، قائلاً إنه خلال قيادته في الليل تعرّض للتشتيت بسبب تغير ألوان الشاشة وإضاءتها القوية، مما جعله يصطدم بسيارة أخرى رغم سرعة منخفضة، مؤكداً أن ما حدث يكشف خطر هذه الإعلانات على حياة السائقين والركاب. ويشدد على أن هذا النوع من الإعلانات يشكل تهديدًا مباشرًا للسائقين والمشاة على حد سواء.

 

من جانبه، أبدى أحمد فؤاد، موظف حكومي كبير في السن، استيائه من التلوث البصري الذي ينتج عن هذه الإعلانات المنتشرة في كل زاوية، والتي لا تراعي الذوق العام، حيث تواجه القاهرة تحولاً إلى فضاء مزدحم بالألوان والأضواء يكاد يربك أي مشاة أو سائق. وهو ما يؤدي إلى استنزاف نفسي وبصري ينعكس سلبًا على جودة الحياة في العاصمة. ولفت انتباهه إلى وجود إعلانات ضخمة بجوار المدارس والمستشفيات تعرض محتوى غير ملائم، مما يطرح تساؤلات حول الجهات المسؤولة عن تنفيذ القانون وضبط الفوضى.

 

رؤية الخبراء في تخطيط الإعلانات الخارجية

 

يرى المهندس كريم عبد الله، استشاري تخطيط الإعلانات الخارجية، أن النمو الهائل في عدد اللوحات يعكس نشاطًا اقتصاديًا ملحوظًا لكنه يطرح تحديات كبيرة على التنظيم والسلامة. وأكد على ضرورة إرساء معايير صارمة تتضمن تحديد المساحات المسموح بها، الارتفاع المناسب، نوع الإضاءة المستخدمة، وأماكن تركيب الإعلانات، خاصة في المناطق السكنية أو ذات القيمة التراثية. كما دعا إلى ضرورة قيام جهة رقابية مستقلة فاعلة تتولى مراقبة الالتزام بتلك المعايير والقيام بالزيارات الدورية وإلزام صيانة اللوحات.

 

وأشار إلى أن جودة الإعلان ليست بأبعاده الكبيرة وإنما بالاحترام للموقع الذي يتم فيه ومدى ملائمته للسياق العمراني، مؤكدًا أن التنظيم المحكم هو الطريق لتسهيل دمج الإعلانات ضمن هوية المدينة دون أن تتحول إلى عبء بصري أو تهديد مروري.

 

أرقام السوق وواقع الاستثمار

 

وفقًا لتقرير صادر عن شركة متخصصة في قياس وتحليل أداء إعلانات الطرق في مصر، بلغ عدد اللوحات الإعلانية في القاهرة الكبرى أكثر من 6,300 لوحة في 2025، بزيادة كبيرة مقارنة بعام 2019، مع استثمار يصل إلى نحو 6.3 مليار جنيه في قطاع إعلانات الطرق الخارجية عام 2024. ويعود هذا النمو إلى توسع نشاط الإعلانات الرقمية ومضاعفة المساحات المتاحة لهذه الإعلانات، خصوصًا في المناطق الحيوية مثل طريق 6 أكتوبر، الطريق الدائري، الشيخ زايد، والواحات.

 

ويتضح من التقرير كذلك ازدياد اهتمام العديد من القطاعات مثل العقارات، الصحة، السيارات، والأجهزة المنزلية بالاستثمار في الإعلانات الخارجية، ما يعكس توسعًا حرًا للأسواق وازدهارًا تسويقيًا، لكنه في الوقت ذاته يتطلب توافقًا مع الإدارة الحضرية للحد من آثاره السلبية على المشهد العمراني.

 

خلاصة وتوصيات

 

يشكل توسع سوق الإعلانات الخارجية في القاهرة تحديًا مزدوجًا: الأول اقتصادي يمثّل فرصًا استثمارية هامة، والثاني حضري بيئي يتمثل في التلوث البصري والمخاطر المرورية. وتبرز الحاجة الملحّة إلى وضع إطار تنظيمي صارم وموحد يراعي خصوصية المناطق المختلفة ويُراعي السلامة المرورية والجمالية العمرانية.

 

يجب أن يكون للحكومة دور أكثر فعالية في متابعة وتنظيم هذا القطاع، من خلال إصدار ضوابط تفصيلية تضمن ملاءمة حجم وموقع الإعلانات، وتحديد شروط الإضاءة وسرعة تغيير المحتوى في الشاشات الرقمية التي أثبتت تأثيرها السالب على السائقين. كما أن إنشاء جهة رقابية مستقلة وقوية هي ضرورة لضمان الامتثال، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين، حفاظًا على سلامة المواطن وحقه في بيئة بصرية صحية.

 

واخيرا فإن الفوضى البصرية في القاهرة الكبرى ليست مجرد قضية جمالية أو اقتصادية، بل تعكس حجم الإهمال الإداري وفشل حكومة السيسي في حماية المواطنين وتنظيم العاصمة. النمو العشوائي لسوق الإعلانات، مع غياب الرقابة الصارمة وتطبيق القانون، يحوّل المدينة إلى بيئة محفوفة بالمخاطر، حيث المواطن هو الخاسر الأكبر. بدون إجراءات عاجلة ورقابة فعلية، ستستمر القاهرة في الانحدار إلى فضاء مزدحم وفوضوي، يعكس سياسة الحكومة القائمة على المصالح الضيقة على حساب سلامة السكان وجودة حياتهم.

 

بهذا الشكل، يصبح سوق الإعلانات الخارجية في القاهرة مثالًا صارخًا على الفجوة بين النمو الاقتصادي غير المنظم والحاجة إلى إدارة حضرية فعالة، ما يضع الحكومة تحت ضغط شعبي وضرورة ملحة لإصلاح سياساتها العمرانية والرقابية.