تظل مهنة التمريض في مصر، التي تشكل الركيزة الأساسية لمنظومة الرعاية الصحية، غارقة في أزمة حادة تتفاقم عامًا بعد عام. فالعجز الكبير في أعداد الممرضين، وتدني الرواتب، وغياب بيئة العمل الآمنة والمحفزة، كلها عوامل تدفع آلاف العاملين إلى ترك المستشفيات الحكومية، إما بالهجرة إلى الخارج أو بالانتقال للقطاع الخاص داخل البلاد. وتشير تقديرات رسمية إلى عجز يفوق عشرات الآلاف في الكوادر التمريضية، وسط توقعات بازدياده ما لم تُتخذ خطوات إصلاح جادة.

 

أسباب العجز وتأثيره على القطاع الصحي

 

على أرض الواقع، تبدو الفجوة واضحة. فمستشفيات عديدة تعمل بنصف طاقتها التمريضية، فيما يواجه العاملون نوبات طويلة مرهقة تمتد لساعات تتجاوز القدرة البشرية. يروي أحد مشرفي التمريض في مستشفى جامعي أن العجز في بعض المستشفيات يصل إلى 70 في المئة، ما يضع ضغطًا هائلًا على الأطقم الموجودة التي تعمل دون مقابل مادي أو معنوي يعكس حجم المسؤولية. ويضيف أن كثيرًا من الممرضين يعملون لأكثر من عشر سنوات برواتب لا تكفي لسد الاحتياجات الأساسية، فضلًا عن غياب الدعم النفسي والتقدير المجتمعي.

 

ولا تتوقف الأزمة عند الحد المادي، بل تمتد لتصل إلى تشويه صورة المهنة. فعدم التمييز بين خريجي كليات التمريض المدربين بشكل أكاديمي، وبين الملتحقين بدورات قصيرة غير مؤهلة، أدى إلى هبوط مستوى الثقة المجتمعية وطرح أسئلة حول جودة الخدمات المقدمة وسلامة المرضى. هذه الصورة المشوشة دفعت العديد من الممرضين إلى البحث عن بيئات عمل أكثر احترافية واحترامًا.

 

الهجرة والاتجاه للقطاع الخاص

 

الهجرة واحدة من أهم أسباب تفاقم الأزمة. فالرواتب المتواضعة في المستشفيات الحكومية لا تقارن بما تقدمه دول عربية وأوروبية من أجور وفرص مهنية أفضل. وفي الداخل، يجذب القطاع الخاص جزءًا كبيرًا من الكوادر بسبب تحسين نسبي في الرواتب وبيئة العمل، ما يحرم المستشفيات الحكومية من عناصر بخبرات طويلة.

 

معاناة يومية داخل المستشفيات

 

في شهادات كثيرة، تتحدث ممرضات عن ساعات عمل تتجاوز 48 ساعة أسبوعيًا، وضغوط نفسية مستمرة، وشعور دائم بعدم التقدير، رغم تعاملهم مع أخطر مراحل حياة المرضى من الولادة وحتى الوفاة. هذا الضغط المتواصل يترك أثرًا نفسيًا يسرع من قرار الهجرة أو الاستقالة.

 

الإطار القانوني والتعليم والتأهيل

 

يطالب العاملون بقصر ممارسة مهنة التمريض على خريجي الكليات والمعاهد المعتمدة، وإلغاء برامج مساعدي التمريض غير المرخصة التي تضعف جودة الخدمة وتؤثر على سمعة المهنة. كما يدعون إلى رفع مكانة كلية التمريض لتصبح من الكليات ذات الأولوية، باعتبارها خط الدفاع الأول في أي منظومة صحية.

 

الجهود الرسمية… خطوات لم تكتمل

 

تتحدث الجهات الصحية الرسمية عن تحسن نسبي في أعداد العاملين خلال السنوات الأخيرة، وتؤكد العمل على تحسين الأجور وإضافة حوافز جديدة بهدف استبقاء الكوادر. كما تم الإعلان عن خطط لتطوير البنية الصحية، بينها إنشاء مستشفيات صغيرة ونظم تدريب جديدة. ورغم ذلك، يرى متخصصون أن هذه الجهود غير كافية لمعالجة أزمة عميقة تتطلب إصلاحات واسعة المدى.

 

مقترحات للخروج من الأزمة

 

يوصي خبراء الصحة بأن تتم مقاربة أزمة التمريض باعتبارها مصلحة قومية لا مجرد ملف إداري، مع ضرورة الاستثمار في التعليم والتدريب، ورفع جودة الإعداد المهني، وتغيير الصورة الاجتماعية المرتبطة بالمهنة. كما يدعو البعض لاعتماد نموذج منظم للهجرة شبيه بتجربة دول آسيوية، بحيث يُستفاد من خبرات المصريين في الخارج دون إفراغ السوق المحلي.

 

واخيرا تعكس الأزمة المتصاعدة في قطاع التمريض عمق التحديات التي تواجه النظام الصحي في مصر. فمع استمرار تدني الأجور، وضعف بيئة العمل، وغياب الحماية القانونية والاحترام المجتمعي، يتواصل نزيف الكوادر المؤهلة تاركًا المستشفيات الحكومية في وضع حرج يهدد جودة الرعاية الصحية. ولإنقاذ القطاع، تبرز الحاجة الملحة إلى سياسات إصلاح متكاملة تشمل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية، إعادة بناء المنظومة التعليمية، وتأمين بيئة عمل تحترم الممرضين وتضمن استقرارهم. من دون ذلك، ستتفاقم التداعيات لتطال حياة المرضى بشكل مباشر، ما يجعل التدخل العاجل ضرورة لا تحتمل التأجيل.