في أقصى الغرب من ميانمار، وعلى ضفاف ولاية أراكان (راخين)، تتجسد مأساة إنسانية قلّ نظيرها في التاريخ المعاصر. هناك، تعيش أقلية الروهينغا المسلمة تحت وطأة الاضطهاد، والحصار، والعنف المنهجي الذي يمارسه الجيش والميليشيات البوذية، والآن أيضًا الميليشيات المحلية المسلحة التي تدّعي تمثيلهم.
آخر فصول هذه المأساة تمثل في فرض "إتاوات" قسرية على الصيادين في مخيمات النازحين وفي القرى النائية التي يقطنها الروهينغا، حيث باتت ميليشيات من مجموعة تطلق على نفسها اسم "جيش أراكان" ARSA، وهي ميليشيات تُتهم أحيانًا بالتواطؤ مع الجيش البورمي، تجبر الصيادين على تسليم نصف ما يحصلون عليه من الأسماك مقابل السماح لهم بالخروج للصيد.
"نأكل السمك ولا نشبع.. نصفه ليس لنا"
يقول عبد القادر، أحد الصيادين الروهينغا في منطقة "مونغداو"، في حديث مع وكالة أنباء محلية (طلب عدم ذكر اسمه الكامل خوفًا من الانتقام):
"لا نملك شيئًا.. لا طعام، لا دواء، لا حرية. وعندما نحاول الخروج للبحر لنطعم أطفالنا، يأتون هؤلاء ويقولون: النصف لنا. لا خيار أمامنا سوى القبول أو السجن أو القتل".
الميليشيات المسلحة، التي كانت في بداياتها تدّعي الدفاع عن الروهينغا، تحولت إلى قوة قهر وسلب، تفرض هيمنتها على مجتمعات فقيرة معدمة لا تملك حتى أوراقًا ثبوتية.
في هذه الظروف، لم يعد الصيد مصدر رزق، بل أداة للابتزاز والمساومة على الحياة.
حصار اقتصادي ومعيشي خانق
الصيد ليس القطاع الوحيد المتضرر. فحياة الروهينغا في ميانمار ـ سواء في القرى أو في مخيمات النزوح ـ محاصَرة من كل جانب.
منذ موجة التطهير العرقي الواسعة عام 2017، التي هجّرت ما يقارب 700 ألف شخص إلى بنغلاديش، لا يزال عشرات الآلاف من الروهينغا داخل ميانمار محاصرين في "معسكرات احتجاز مفتوحة"، حيث لا يُسمح لهم بالتحرك، أو العمل، أو حتى الوصول للمرافق الصحية والتعليمية.
1. الغذاء: جوع مزمن ومعونات شحيحة
برنامج الغذاء العالمي قلّص حصص المساعدات بسبب نقص التمويل، ومع القيود المفروضة على الحركة، يعاني معظم سكان المخيمات من سوء التغذية الحاد، وخاصة الأطفال والنساء الحوامل.
تُمنع القوارب من الوصول إلى الأسواق، وتُصادر الحبوب من بعض القرى الريفية، فيما الأسعار ترتفع بلا رقابة.
2. التعليم: أجيال بلا مدارس
الروهينغا ممنوعون من التعليم الرسمي. والمدارس التي تُنشأ داخل المخيمات تكون غالبًا بدائية وبجهود تطوعية، ما أدى إلى تسرب جيل كامل من الأطفال عن مقاعد الدراسة، وهو ما يهدد بتفشي الأمية، وتفاقم حلقة الفقر، والتجنيد القسري في الميليشيات.
3. الرعاية الصحية: موت ببطء
لا توجد مستشفيات أو عيادات مجهزة في المخيمات، ولا يُسمح بنقل المرضى إلى المدن المجاورة بدون إذن أمني غالبًا لا يُمنح.
في حالات الولادة، أو الإصابات أو الأمراض المزمنة، يموت كثيرون بسبب انعدام الإسعاف والأدوية.
تقول عائشة، وهي أم لثلاثة أطفال:
"كل مرة يصاب طفلي بالحمى، أدعو الله فقط ألا تكون المرة الأخيرة".
العنف من كل الاتجاهات: الجيش، والميليشيات، وحتى الشرطة
لطالما واجه الروهينغا اضطهاد الجيش البورمي، الذي يتهمهم بأنهم "مهاجرون بنغاليون غير شرعيين"، رغم أنهم عاشوا في المنطقة لقرون.
لكن المستجد الخطير هو أنهم باتوا محاصرين من فصائل وميليشيات تدّعي تمثيلهم، في حين تتواطأ الشرطة والجيش أحيانًا مع هذه القوى لتفتيت المجتمع ومصادرة ما تبقى من موارده.
جيش أراكان (ARSA)، وهو الفصيل المسلح الأبرز حاليًا، متهم باستخدام العنف داخل المخيمات، وتجنيد المراهقين، وتصفية معارضين.
كما أنه يفرض "ضرائب" أو "إتاوات" على كل شيء: الصيد، الزراعة، وصول المساعدات، وحتى شراء الأغذية من الأسواق.
هذا الواقع خلق بيئة من الخوف والفقر والعجز التام، حيث لا يوجد ملاذ آمن للروهينغا حتى داخل مجتمعهم نفسه.
الشتات في بنغلاديش.. مأساة موازية
ما يقارب مليون لاجئ روهينغي يعيشون في مخيمات "كوكس بازار" في بنغلاديش، حيث تعاني هذه المخيمات من الاكتظاظ، والجريمة، وتهريب البشر، وتقليص المساعدات الدولية.
اللاجئون هناك ممنوعون من العمل، والعديد منهم يعيش في أكواخ مهترئة.
التعليم محدود، والمساعدات الغذائية تقلّصت من 12 دولارًا للفرد شهريًا إلى أقل من 8 دولارات، ما يجبر البعض على بيع حصصهم الغذائية من أجل شراء دواء أو لباس.
كما تنتشر عصابات تهريب البشر، التي تستغل الحاجة اليائسة للفرار، وتعدهم بفرص عمل في ماليزيا أو تايلاند، لتتركهم لاحقًا في عرض البحر أو تسلمهم لعصابات استعباد.
صمت دولي وتواطؤ إقليمي
رغم توصيف الأمم المتحدة لما حدث ضد الروهينغا بأنه "تطهير عرقي" و"جرائم ضد الإنسانية"، لم يتغير الواقع كثيرًا.
الجنرالات البورميون ما زالوا في السلطة، وتواصل الدول الكبرى، خاصة الصين وروسيا، حمايتهم دبلوماسيًا.
أما دول الجوار، فبين بنغلاديش المنهكة، وتايلاند الصامتة، والهند المتشددة، وماليزيا التي تضيّق عليهم، فلا يوجد ملجأ حقيقي.
الولايات المتحدة فرضت عقوبات على بعض قادة الجيش البورمي، لكن لم يترافق ذلك مع خطوات حقيقية للضغط السياسي والاقتصادي.
وحتى الدول الإسلامية، التي كانت تصدح بشعارات نصرة الأقليات، لم تقدم سوى بيانات تضامن شكلية، دون مساعدات ملموسة أو تدخل فعال.
الروهينغا شعب منسي
إن ما يواجهه الروهينغا اليوم لم يعد مجرد اضطهاد عرقي أو ديني، بل هو مشروع استئصال صامت، يتم على مراحل: بالتجويع، والتهميش، والتقسيم الداخلي، وقطع سبل الحياة الأساسية.
الإتاوات المفروضة على الصيادين ليست سوى فصل جديد من فصول هذه المأساة، وهي مؤشر خطير على انهيار البنية المجتمعية الداخلية نتيجة غياب الحماية الدولية والفوضى التي تنشرها الميليشيات.
ما يحتاجه الروهينغا اليوم ليس الشفقة، بل تحرك دولي حقيقي يعيد لهم حقوقهم، ويحمي من تبقى داخل ميانمار، ويضمن العودة الآمنة للمهجرين.
وما يحتاجه العالم هو أن يتوقف عن تجاهل هذه المأساة المتفاقمة، وأن يتذكر أنه في كل يوم يُسلب فيه الروهينغا حقهم في الحياة، نخسر جميعًا إنسانيتنا.