في مشهد يبدو متناقضًا ومحيرًا، تُظهر تقارير البنوك المصرية انتعاشًا كبيرًا في منح القروض، سواء للأفراد أو للشركات، في الوقت الذي تعاني فيه قطاعات واسعة من المواطنين والمستثمرين من أزمة تعثر حادة في السداد. هذه المفارقة تطرح تساؤلات جادة حول منطق السياسات الائتمانية في مصر، وجدواها الاقتصادية، وتأثيراتها الاجتماعية بعيدة المدى.
وتسجل أسعار العائد الأساسية لدى البنك المركزي المصري حالياً مستويات تبلغ 24% للإيداع، و25% للإقراض لليلة واحدة، بينما يبلغ سعر العملية الرئيسية 24.5%، وهو المستوى نفسه لسعر الائتمان والخصم.
فكيف يمكن لقطاع البنوك أن يواصل التوسع في الإقراض في ظل بيئة اقتصادية تعاني من الركود والتضخم ونقص السيولة لدى الأفراد؟ وهل ما يُروّج له من “نمو في القروض” يعكس بالفعل نشاطًا اقتصاديًا صحيًا، أم أنه تضخم وهمي يخفي وراءه جبلًا من الأزمات؟
لغة الأرقام – ارتفاع كبير في حجم القروض
وفقًا لتقارير البنك المركزي المصري، ارتفع إجمالي أرصدة القروض الممنوحة من البنوك بنهاية النصف الأول من العام الجاري بنسبة تجاوزت 15% على أساس سنوي. وشمل هذا الارتفاع مختلف أنواع القروض:
قروض الأفراد (الاستهلاكية، الإسكان، التعليم، السيارات)
قروض المشروعات الصغيرة والمتوسطة
قروض الشركات الكبرى والقطاعات الصناعية والتجارية
وبحسب بيان صادر عن أحد أكبر البنوك التجارية في مصر، فإن الطلب على القروض الاستهلاكية في تزايد مستمر، خاصة مع تآكل قيمة الجنيه المصري وارتفاع الأسعار بشكل حاد، مما دفع الكثيرين إلى الاقتراض لتغطية احتياجات أساسية.
الواقع اليومي – المواطن والمستثمر في أزمة
بعيدًا عن لغة الأرقام الرسمية، تعكس القصص اليومية للأسر المصرية والمستثمرين الصغار صورة مغايرة. فالمواطن الذي كان يقترض لشراء سيارة أو تجهيز منزل أو حتى تسديد مصروفات المدارس، بات اليوم يقترض لسد ثغرات المعيشة اليومية.
وفي المقابل، يعاني عدد كبير من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة من تباطؤ المبيعات وارتفاع التكاليف التشغيلية، ما يجعلهم غير قادرين على الوفاء بالتزاماتهم البنكية.
تقول منى (43 عامًا)، وهي موظفة في القطاع الخاص: “كنت أدفع قسط قرض 2200 جنيه شهريًا بسهولة قبل سنتين، أما الآن، وبعد ارتفاع أسعار كل شيء، صرت أختار بين دفع القسط أو شراء مستلزمات البيت الأساسية”.
أما حسين (صاحب مصنع صغير في العاشر من رمضان) فيضيف: “البنك أعطاني قرض تطوير بمليون جنيه، صرفته على تحديث المعدات، لكن بعد تعويم الجنيه وارتفاع سعر الكهرباء والخامات، المبيعات تراجعت جدًا، مش عارف أسدد، ولا حتى أوقف النزيف”.
الأزمة الهيكلية – سياسة إقراض غير مسؤولة؟
الانتقادات تتزايد تجاه النهج المتبع من البنوك المصرية في التوسع بالإقراض دون تقييم كافٍ للقدرة الحقيقية للعملاء على السداد، خصوصًا في ظل ظروف اقتصادية غير مستقرة. فمن الواضح أن العديد من القروض تُمنح اعتمادًا على الضمانات الشكلية، دون دراسة جادة للعوائد الاقتصادية للمشروع أو قدرة المقترض على السداد.
وتتهم تقارير مصرفية غير رسمية بعض البنوك بتفضيل منح القروض قصيرة الأجل، الاستهلاكية أو ذات الضمان الحكومي، على حساب الإقراض الإنتاجي طويل الأجل، الذي يمكن أن يُسهم فعلاً في نمو الاقتصاد وتوفير وظائف.
يقول خبير التمويل د. إيهاب الشماع: “ما يحدث هو توسيع لمحفظة الإقراض لتحقيق أرباح رقمية، لكنه توسع غير صحي... البنوك اليوم أصبحت تمول الاستهلاك بدلًا من الإنتاج، وتزيد من ديون الأفراد بدلًا من مساعدتهم على تحسين دخولهم”.
القروض كقنبلة اجتماعية موقوتة
أخطر ما في هذا المشهد أن انتفاخ محفظة القروض لا يصاحبه ارتفاع موازٍ في معدلات السداد أو الاستقرار المعيشي، مما يعني أن عدد حالات التعثر مرشح للزيادة بشكل خطير خلال الشهور القادمة.
ويخشى خبراء من أن يؤدي ذلك إلى:
- زيادة الدعاوى القضائية وحالات الحبس بسبب الديون
- تعثر مشروعات صغيرة كانت تأمل في التوسع
- تحول الاقتراض إلى عبء دائم يُفقد المواطن شعوره بالأمان الاقتصادي
- تعميق الطبقية بين من يمكنه الحصول على قروض مدعومة أو معفاة من المخاطر، وبين المواطن العادي الذي يتحمل كل العبء
خامسًا: أين البنك المركزي من كل هذا؟
البنك المركزي المصري، بصفته الجهة الرقابية الأولى على القطاع المصرفي، مطالب اليوم بمراجعة سياسة الإقراض المتساهلة التي تتبعها بعض البنوك التجارية. ومع أن المركزي أصدر تعليمات تنظيمية في الأعوام الماضية، مثل تحديد نسبة القروض إلى الدخل، إلا أن التطبيق العملي لها لا يبدو فعالًا.
كذلك، لا توجد شفافية كافية حول نسب التعثر الحقيقية، أو خطط البنوك للتعامل مع الديون المتعثرة، أو كيفية حماية المقترضين من الغرق المالي.
قروض استهلاكية مقابل تراجع القوة الشرائية
أحد أهم العوامل التي فاقمت الأزمة هو التوسع في منح القروض الاستهلاكية، التي لا تُضيف قيمة اقتصادية حقيقية، بل تزيد من عجز الأسر في ظل التضخم المستمر. فعوضًا عن الترويج للادخار أو للاستثمار، أصبح الاقتراض هو الملاذ الوحيد للمواطن محدود الدخل.
ومع تراجع القوة الشرائية، تصبح القدرة على السداد مجرد وهم مؤجل، حيث يتم استخدام قرض جديد لسداد قرض قديم، في دورة قد تنتهي بانهيار مالي شخصي.
المطلوب فورًا – إصلاح جذري وشامل
الحديث عن "انتعاش القروض" لم يعد مبهجًا كما كان في الماضي، بل أصبح مثار قلق. المطلوب اليوم ليس المزيد من التوسع في الإقراض، بل:
- ضبط سياسة الائتمان بضوابط أكثر صرامة
- تحفيز البنوك على تمويل الأنشطة الإنتاجية بدلًا من الاستهلاكية
- إنشاء نظام عادل لإعادة جدولة الديون وتخفيف عبء التعثر
- نشر بيانات دورية عن نسب التعثر الحقيقية لتوفير الشفافية
- إعادة تعريف وظيفة البنوك كوسيط تنموي لا مجرد تاجر مال
والخلاصة أن القطاع المصرفي المصري اليوم يقف على مفترق طرق.
فبينما تظهر المؤشرات المالية نموًا في حجم الإقراض، فإن الواقع الاقتصادي والمعيشي يرسم صورة أكثر قتامة، مليئة بالتعثر والمخاطر الاجتماعية والمالية.
إذا استمرت البنوك في منح القروض دون تقييم حقيقي للمخاطر، وإذا ظل المواطن مضطرًا إلى الاستدانة لتأمين احتياجاته الأساسية، فإن الحديث عن "انتعاش" يصبح مضللًا، ويُخفي وراءه أزمة مدفونة قد تنفجر في أي لحظة.
وما لم يُعالج هذا الاختلال من جذوره، فإننا قد نشهد قريبًا أزمة قروض صامتة، لا تختلف كثيرًا عن الأزمات المالية الكبرى التي شهدها العالم بسبب التوسع غير المنضبط في الإقراض.