في خطوة نادرة ومعبّرة، أغلقت عشرات المطاعم والمقاهي في الجانب الفلمنكي من بلجيكا أبوابها طواعية، استجابةً لنداء وجهته نقابة العاملين في قطاع الضيافة والخدمات الفندقية، تضامنًا مع أهالي قطاع غزة المحاصر الذين يعانون من المجاعة والدمار جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة.
التحرك البلجيكي الذي جاء في سياق تضامن إنساني وشعبي لا يخضع لحسابات سياسية أو ضغط دبلوماسي، أثار إعجابًا واسعًا في الأوساط المؤيدة للقضية الفلسطينية، وأعاد إلى الواجهة المفارقة المؤلمة بين التضامن الغربي المتنامي، والتخاذل الرسمي العربي المخزي، حيث لم تشهد عاصمة عربية واحدة تحركًا مشابهًا، لا من نقابات ولا من مؤسسات، بل لم يصدر عن معظمها حتى بيان إدانة صريح للمجاعة أو المطالبة بكسر الحصار.
بلجيكا تغلق مطاعمها نصرة لغزة الجائعة
الجانب الفلمنكي من بلجيكا، حيث الأغلبية الناطقة بالهولندية، شهد مشهدًا نادرًا في مدنه الكبرى مثل أنتويرب، خنت، ولوفين، إذ قررت عشرات المطاعم تعليق خدماتها ليوم كامل، معلّقة على واجهاتها لافتات كتب عليها:
"نغلق اليوم من أجل من لا يجدون قوت يومهم في غزة".
جاءت هذه المبادرة استجابة لحملة أطلقتها النقابة الوطنية للعاملين في قطاع الضيافة (Horeca Union)، بالتعاون مع منظمات مجتمع مدني مثل "أطباء لأجل فلسطين"، و"التحالف من أجل العدالة في الشرق الأوسط"، حيث دعت إلى وقف رمزي للعمل يلفت الأنظار إلى المجاعة الممنهجة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القطاع المحاصر.
وقال أحد أصحاب المطاعم المشاركين في المبادرة لقناة RTBF البلجيكية:
"لسنا سياسيين، نحن طهاة وعاملون في الضيافة. لكن لا يمكن أن نغض الطرف عن مشهد أمهات يبحثن عن حشائش لإطعام أطفالهن، فيما العالم يواصل الصمت. هذا أقل ما يمكن فعله".
الفعل الشعبي الغربي يسبق الموقف الرسمي
اللافت في هذه المبادرة أنها لم تأت من الحكومة البلجيكية أو الأحزاب السياسية، بل من نقابات مهنية مستقلة ومبادرات مدنية، ما يعكس عمق التحول الشعبي في الغرب نحو دعم الفلسطينيين، لاسيما بعد مشاهد المجازر والمجاعة التي فاضت بها وسائل الإعلام ومنصات التواصل.
لقد أظهرت استطلاعات رأي حديثة في أوروبا والولايات المتحدة أن نسبة كبيرة من الشباب والعمال تقف إلى جانب الفلسطينيين وتدين العدوان الإسرائيلي، حتى إن بعض المدن الأوروبية شهدت إضرابات عمالية ووقفات احتجاجية أمام مصانع السلاح المتجهة إلى إسرائيل، كما حدث في بريطانيا وإيطاليا وألمانيا.
في المقابل، ورغم أن الأنظمة العربية تمتلك أدوات أقوى وتأثيرًا مباشرًا على الأرض، فإنها ظلت رهينة الحسابات السياسية والتحالفات الإقليمية، ولم تتحرك إلا بشكل شكلي أو متأخر، بينما ظل الناس في غزة يموتون جوعًا وقصفًا.
الدول العربية.. بيانات باردة ومواقف باهتة
في وقت كانت فيه المطاعم البلجيكية تُغلق تضامنًا، لم تصدر عن أي حكومة عربية ـ باستثناء بيانات روتينية ـ دعوة شعبية أو حملة تضامن ذات طابع عملي.
لم تُغلق مطاعم ولا متاجر ولا مؤسسات حكومية لأجل غزة. لم تدعُ أي دولة عربية إلى إضراب رمزي، أو إلى خفض العلاقات التجارية مع إسرائيل أو الدول الداعمة لها. بل على العكس، استمر بعض الأنظمة في التطبيع، وفي إرسال الوفود، وحتى قمع المظاهرات المؤيدة لغزة في عدة عواصم.
ويبدو أن الشعوب العربية، التي كانت تُفترض في طليعة المدافعين عن فلسطين، أُرغمت على الصمت إما بالقمع الأمني أو باليأس من جدوى التحرك، في ظل حكومات تسعى للبقاء في السلطة أكثر من سعيها لنصرة القضايا الوطنية أو الإنسانية.
رمزية الإغلاق... ورسائل المقاطعة غير الرسمية
إغلاق المطاعم في بلجيكا لا يمثل فقط تضامنًا رمزيًا مع غزة، بل هو رسالة رفض ضمنية للأنظمة الغربية المتواطئة مع الحرب الإسرائيلية.
إنها طريقة شعبية لقول:
"نرفض أن تُسفك الدماء باسمنا، ونرفض أن تُستثمر ضرائبنا في تمويل الجرائم".
وقد حملت هذه الخطوة أبعادًا تتجاوز المطاعم نفسها، إذ رافقها تفاعل شعبي كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وازدياد الدعوات إلى مقاطعة الشركات المتواطئة مع الاحتلال، وتكثيف الضغط على البرلمانات المحلية لمراجعة صفقات الأسلحة ومذكرات التفاهم مع تل أبيب.
هذا النوع من الضغط الشعبي أدى إلى تراجع بعض الحكومات الأوروبية عن دعمها المطلق لإسرائيل، كما حدث في أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا نفسها، التي شهد برلمانها مؤخرًا نقاشات حادة حول تعليق صفقات الأسلحة.
مقارنة مؤلمة.. الغرب يتضامن والعرب يتنصّلون
ما يجعل التحرك البلجيكي أكثر إيلامًا أنه لم يحدث في أي بلد عربي واحد، رغم القرب الجغرافي والثقافي والديني من فلسطين.
أين هي النقابات المهنية العربية؟
أين اتحادات العمال؟
أين وزارات الثقافة والإعلام والسياحة؟
الجواب باختصار: مغيبون، خائفون، أو متواطئون.
إما أن يكونوا مُلجمين بالقوانين الاستبدادية التي تمنع العمل السياسي والاجتماعي المستقل، أو أنهم يخشون القمع الأمني، أو ببساطة لا يعيرون القضايا القومية أي اهتمام حقيقي.
هذا الواقع خلق فجوة عميقة بين الشعوب العربية وأنظمتها، وزرع شعورًا عامًا بأن القضايا العادلة لم تعد تجد حاضنة لها في عالمنا العربي، وأن الدفاع عنها بات يأتي من أقاصي أوروبا لا من ساحات القاهرة أو بيروت أو عمّان.
دروس من الغرب... كيف يتحول التعاطف إلى ضغط سياسي
لا يُمكن إنكار أن كثيرًا من الحكومات الغربية لا تزال تدعم إسرائيل بشكل غير مشروط، لكن التحركات الشعبية التي تشهدها المدن الغربية مؤخرًا بدأت تُحدث تصدعات واضحة في هذا الدعم.
في الولايات المتحدة مثلًا، يواجه الرئيس جو بايدن ضغطًا داخليًا كبيرًا من التيار التقدمي والناخبين الشباب بسبب موقفه المنحاز لإسرائيل.
وفي بريطانيا، اضطرت حكومة ريشي سوناك إلى الرد مرارًا على احتجاجات عمالية طالت الموانئ التي تُشحن منها الأسلحة لإسرائيل.
هذه الضغوط الشعبية لم تكن ممكنة لولا وجود نقابات حرة، ومجتمع مدني نشط، وإعلام مستقل… وهي كلها عناصر مغيبة أو محظورة في أغلب الدول العربية.
الضمير لا يُحتكر بالدين ولا بالعرق
الدرس الأهم من تحرك المطاعم البلجيكية أن الضمير الإنساني لا يُحتكر بجنسية أو دين.
لقد تحرك الأوروبيون من منطلق إنساني، بينما سكنت كثير من العواصم العربية.
وقدّم العاملون في قطاع الضيافة ببلجيكا درسًا أخلاقيًا راقيًا، في وقت فشل فيه بعض الأئمة والخطباء والسياسيين العرب حتى في تسمية الجريمة باسمها.
إن القضية الفلسطينية لم تعد فقط قضية عرب ومسلمين، بل أصبحت قضية أخلاقية عالمية، من لا ينصرها وهو قادر، فإنه يتواطأ بصمته.