رغم الخطاب المتشدد للنظام الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي بشأن فصل الدين عن السياسة، وتحذيراته المتكررة من "تسييس دور العبادة"، شهدت انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة ما يمكن وصفه بـ"النكوص الكامل عن تلك المبادئ"، حيث تم توثيق حالات عديدة من استخدام المساجد والزوايا كمنصات دعائية انتخابية لصالح مرشحي السلطة أو المقربين منها، دون تدخل من الجهات الرقابية أو الهيئة الوطنية للانتخابات.

الجمعيات الحقوقية المحلية والدولية سجّلت انتهاكات انتخابية ممنهجة، تتراوح بين استغلال دور العبادة، وشراء الأصوات، واستخدام المال السياسي، واستعداد لنقل جماعي للناخبين، وهو ما ألقى بظلال من الشك على نزاهة العملية الانتخابية برمتها، وأثار تساؤلات حول ازدواجية النظام في تطبيق القانون حسب الهوية السياسية للمخالف.

 

ازدواجية صارخة بين خطاب الدولة وسلوكها على الأرض

منذ انقلاب 2013، ركّز السيسي في معظم خطاباته على تحذير الأئمة من استخدام المنابر في السياسة، حتى وصل به الأمر إلى إصدار تعليمات مباشرة لوزارة الأوقاف بفصل أي إمام يروج لأفكار حزبية أو يدعو لأي جهة انتخابية أو سياسية.
لكن في انتخابات الشيوخ الأخيرة، بدا أن هذا التحريم لا يشمل مرشحي السلطة أو تحالفاتها، حيث تم غض الطرف عن العشرات من المخالفات داخل المساجد والزوايا، وخاصة في المحافظات الريفية والوجه البحري.

تم رصد قيام أئمة محسوبين على وزارة الأوقاف بالترويج صراحةً لبعض المرشحين من خلال خطب الجمعة، أو الإعلانات الورقية داخل محيط المسجد، كما نُقل عن بعضهم إشادتهم بـ"جهود المرشحين في خدمة الوطن"، وهو ما اعتبرته منظمات حقوقية استخدامًا صريحًا للخطاب الديني في التأثير على الناخبين.

هذا الصمت المطبق من الجهات المعنية، رغم المخالفات الواضحة، أكد أن الدولة لا تعارض تسييس المساجد بحد ذاته، بل تعارض فقط استخدامه من قبل أطراف لا تنتمي لتحالفها السياسي، مما يُعد تسييسًا انتقائيًا للدين يخدم أهداف السلطة.

ثانياً: استخدام دور العبادة في الدعاية الانتخابية

وثقت مؤسسة "الحق في المشاركة" ومركز "عدالة لحقوق الإنسان" ما لا يقل عن 57 حالة انتهاك مرتبطة باستخدام المساجد والزوايا الصغيرة كمنصات للترويج الانتخابي.
وشملت الانتهاكات ما يلي:

تعليق لافتات لمرشحين في مداخل المساجد ومحيطها.
تنظيم لقاءات انتخابية في قاعات ملحقة بالمساجد، خاصة في القرى.
دعوات مباشرة من خطباء الجمعة للتصويت لصالح مرشحين بعينهم، بحجة دعم "الاستقرار والأمن".
توفير وسائل نقل من أمام المساجد تقل الناخبين إلى مقار الاقتراع، تحمل صور المرشحين.
بعض هذه الحالات تم توثيقها بالصور والفيديو، وأُرسلت إلى الهيئة الوطنية للانتخابات دون رد رسمي، مما دفع منظمات حقوقية للقول إن الهيئة تتجاهل عمدًا الانتهاكات التي يرتكبها مرشحو النظام، مقابل تشديد الخناق على المعارضة والمرشحين المستقلين.

ثالثاً: المال السياسي... أداة النظام لضمان نسبة "مقبولة" من التصويت

مع إدراك النظام أن الإقبال الجماهيري على انتخابات مجلس الشيوخ ضعيف بطبيعته، نظرًا لضعف الصلاحيات التشريعية لهذا المجلس وغموض دوره، لجأت أجهزة الدولة إلى تنشيط أدوات الحشد غير المشروعة.
رصدت تقارير انتخابية:

دفع مبالغ نقدية للناخبين مقابل التصويت (من 100 إلى 300 جنيه).
استخدام جمعيات أهلية تابعة للحكومة لتوزيع مواد تموينية مقابل تأييد مرشحين بعينهم.
تنظيم رحلات جماعية بالميكروباصات من القرى الفقيرة لصالح مرشحي "القائمة الوطنية" المدعومة من أجهزة الدولة.
في هذا السياق، قال أحد المراقبين المستقلين، طالبًا عدم الكشف عن هويته:

"الدولة كانت تعرف أن نسبة التصويت ستكون مخجلة دوليًا، لذلك تحركت بأدوات غير قانونية لضمان حد أدنى من الإقبال، دون أن تعبأ بالانتهاكات".

 

صمت الهيئة الوطنية للانتخابات... تواطؤ أم عجز؟

رغم الكم الكبير من التقارير الحقوقية والبلاغات الرسمية التي قُدمت إلى الهيئة الوطنية للانتخابات، لم يصدر عنها أي إدانة أو بيان توضيحي أو حتى وعد بالتحقيق.
بل إن تصريحات بعض مسؤولي الهيئة جاءت مبررة للوضع، على غرار ما قاله أحد أعضائها:

"ما نراه ليس مخالفات ممنهجة، بل تجاوزات فردية لا تؤثر على المسار العام".

هذا الصمت اعتبره مراقبون دليلًا على أن الهيئة لم تعد تلعب دورًا محايدًا، بل أصبحت ذراعًا تنفيذية لتجميل صورة العملية الانتخابية أمام الإعلام المحلي والدولي، لا أكثر.
وساهم هذا التواطؤ في فقدان الثقة في مصداقية الانتخابات كمؤسسة رقابية، مما أدى إلى ضعف المشاركة السياسية والتراجع العام في مفهوم الانتخابات كأداة ديمقراطية.

 

المقارنة مع الانتخابات السابقة.. استمرار لنهج الانتهاك

ما حدث في انتخابات مجلس الشيوخ لا يمثل استثناء، بل يندرج ضمن سياق انتخابي متكرر في عهد السيسي، منذ انتخابات 2014 الرئاسية، وصولًا إلى استفتاء التعديلات الدستورية عام 2019.
في كل مرة، يتم:

استخدام المال السياسي والتخويف الأمني.
تسخير المؤسسات الدينية لحشد تأييد شعبي شكلي.
إقصاء المعارضة وتهميش المستقلين.
تبرير المخالفات من قبل هيئة الانتخابات.
ويؤكد محللون أن النظام لا يهتم بسلامة الإجراء بقدر ما يركز على "الصورة النهائية" التي يريد تصديرها للإعلام: نسبة تصويت مقبولة، ومرشحين موالين، وغياب أي تمثيل حقيقي للمعارضة.

 

انتخابات بلا روح... ومساجد تخدم النظام لا المجتمع

رغم أن النظام  يُهاجم باستمرار استخدام الدين في السياسة، إلا أن الممارسة الواقعية تُظهر أن المشكلة ليست في المبدأ، بل في الجهة التي تستخدمه.
فإذا كان استخدام المساجد لخدمة مشروع إسلامي أو معارض مرفوضًا ويتم تجريمه، فإن استخدامه لخدمة النظام وأذرعه الحزبية يصبح "مشروعًا وطنيًا" يستحق التغاضي.

وهكذا تفقد دور العبادة مكانتها كمراكز روحية جامعة، وتتحول إلى أدوات انتخابية تخدم أجندات مرحلية. ومع تكرار هذا النهج دون مساءلة أو رقابة، تتحول الانتخابات من استحقاق ديمقراطي إلى مسرحية خالية من أي مضمون حقيقي، يقف فيها المواطن مهمشًا، والمراقب مغيبًا، والمعارضة محظورة.

إن صمت الهيئة الوطنية للانتخابات، وتواطؤ مؤسسات الدولة الدينية، واستمرار المال السياسي، يُظهر أن الانتخابات في مصر، تحت حكم السيسي، لم تعد وسيلة للتعبير الحر، بل أداة شكلية لتكريس واقع سياسي مغلق، تتحكم فيه الدولة بكل تفاصيله، حتى من على منابر المساجد.