في قلب الصحراء السودانية القاسية، وتحت شمس تحرق الأجساد قبل أن تُنهكها المجاعات والأوبئة، يعيش مئات الآلاف من النازحين من إقليم دارفور السوداني واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.

فمنذ اندلاع الصراع العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، وجد سكان الإقليم أنفسهم عالقين في مرمى النيران، بين التهجير القسري، والانتهاكات الممنهجة، والموت جوعًا ومرضًا.

ومع كل يوم يمر، تتعمق مأساة النازحين وسط غياب كامل للغذاء والماء والرعاية الصحية، وانعدام أي أفق سياسي للحل، وتجاهل دولي لا يُغتفر.

 

دارفور.. الجرح المفتوح منذ عقود
دارفور، الإقليم الواقع غرب السودان، ظل لعقود ساحة صراعات قبلية، وتصفية حسابات سياسية، وتدخلات ميليشياوية مسلحة، لكن الصراع الأخير فاق كل ما قبله من مآسٍ.

تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن أكثر من 5.4 ملايين شخص نزحوا داخليًا داخل السودان منذ اندلاع القتال.

ويُقدّر عدد النازحين من دارفور وحدها بأكثر من 1.5 مليون شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن.

مدن كاملة مثل الجنينة وزالنجي ونيالا تحوّلت إلى مدن أشباح، فيما فرّ السكان سيرًا على الأقدام إلى مخيمات بدائية لا تصلح للحياة.

 

الموت جوعًا وعطشًا
في مخيمات النزوح المنتشرة على أطراف دارفور أو في المناطق الحدودية مثل تشاد وجنوب السودان، يعيش الناس على حافة الموت.

  • غياب الغذاء:
    يعيش النازحون على وجبة واحدة كل 3 أيام في بعض المخيمات، حسب تقارير منظمة الأغذية العالمية.
    لا تتوفر وجبات تحتوي على الحد الأدنى من السعرات الحرارية، ما يؤدي إلى سوء تغذية حاد خاصة بين الأطفال.
    يعتمد السكان على المساعدات العشوائية التي تأتي من منظمات محلية أو تبرعات فردية، في ظل غياب شبه تام لوكالات الأمم المتحدة.
     
  • انعدام المياه:
    عدد من المخيمات يفتقر لآبار مياه نظيفة، ويضطر السكان لجلب المياه من برك ملوثة تبعد كيلومترات.
    حالات الكوليرا والإسهال المائي الحاد تتزايد يوميًا، وسط غياب أي تدخل صحي فعّال.
    تقارير محلية تتحدث عن وفاة 8 أطفال خلال أسبوع واحد بسبب تلوث المياه فقط.
     

الرعاية الصحية.. رفاهية مفقودة

في زمن الحروب، يصبح المرض قاتلًا مضاعفًا. ففي دارفور اليوم:

  • لا توجد مستشفيات ميدانية كافية.
  • الأدوية الأساسية منقطعة.
  • حالات الملاريا، والحصبة، والكوليرا تنتشر في المخيمات بسرعة مفجعة.
  • النساء الحوامل يلدن في الخيام، دون وجود قابلات أو خدمات طبية، مما يرفع معدلات وفيات الأمهات والمواليد.

النازحون يموتون ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب الإهمال المنظم، والفشل الإنساني الدولي في الوصول إليهم بالمساعدات الضرورية.

 

قصص من الداخل.. الموت له أسماء
في مخيم "أردمتا" غرب الجنينة، تحكي "فاطمة"، أرملة في الأربعينات، قصتها:"هربت أنا وأطفالي الأربعة من بيتنا في الجنينة بعدما قتلوا زوجي أمامي. مشينا لثلاثة أيام حتى وصلنا للمخيم. ما عندنا أكل ولا شرب. بنتي الصغيرة ماتت من الجفاف، وأنا لا أملك حتى كفنًا لها."

وفي مخيم آخر قرب الحدود التشادية، يقول "إسماعيل" شاب نازح:"كل يوم ندفن أطفالًا. لا أطباء، لا دواء، حتى الملاريا نتركها تأخذ ضحاياها. الحرب انتهت في بعض المناطق، لكن نحن نموت ببطء."

 

تجاهل عربي ودولي مريب
ورغم هول الكارثة، إلا أن صوت دارفور لا يصل إلى نشرات الأخبار كما يصل صوت الحرب في أوكرانيا أو غزة.

  • لا تغطية كافية في الإعلام العربي.
  • لا استجابة عربية لوجستية أو طبية.
  • مجلس الأمن اكتفى بالإدانة اللفظية.
  • المنظمات الإنسانية عاجزة عن الوصول إلى مناطق النزاع بسبب استمرار المعارك.

أصبحت دارفور "اليمن المنسي الجديد"، حيث الجوع يُترك ليفتك، والأوبئة لتنتشر، والعدالة لتُدفن تحت ركام النزوح.

 

النساء والأطفال.. أكبر الضحايا
وفقًا لتقارير صادرة عن اليونيسف:

  • ما لا يقل عن 70% من النازحين في دارفور هم من النساء والأطفال.
  • عشرات حالات الاغتصاب والتعنيف الجنسي موثقة ضد النساء في المخيمات.
  • الأطفال محرومون من التعليم منذ أكثر من عام، مما ينذر بجيل كامل من الأمية والاضطراب النفسي.
  • لا وجود لأي دعم نفسي للأطفال الذين شهدوا المجازر أو فقدوا أسرهم.

 

من المسؤول عن هذه المأساة؟

لا يمكن الحديث عن ما يجري في دارفور بدون تحميل المسؤولية:

  • قوات الدعم السريع: متهمة بارتكاب جرائم تطهير عرقي، كما حدث في الجنينة في يونيو 2024، حيث قُتل أكثر من 1000 مدني خلال أسبوع واحد.
  • المجتمع الدولي: متهم بالتقاعس الممنهج، رغم تقارير الإبادة الجماعية.
  • الأنظمة العربية: لم تتحرك لنصرة أهل دارفور، ولم ترسل مساعدات كافية، بل أُغلقت بعض الحدود أمام الهاربين من الموت.

وفي النهاية فدارفور ليست مجرد قضية لاجئين.. بل وصمة على جبين العالم، فهي ليست فقط مأساة محلية، بل كارثة إنسانية عالمية، ومن العار أن يُترك أهلها لمواجهة الموت وحيدين.

لقد أثبتت الأيام أن الحرب لا تقتل الناس فقط بالسلاح، بل تقتلهم أيضًا بالتجاهل، بالصمت، بالإهمال، وبتجريدهم من حقهم في النجاة، إن كل يوم يُترك فيه نازحو دارفور في هذا الوضع، هو عارٌ جديد على جبين الإنسانية، فإما أن يتحرك الضمير العالمي، أو أن نُسجّل في صفحات التاريخ كجيل وقف متفرجًا على أكثر الجرائم فظاعة.