في منتصف عام 2025، أعلنت الحكومة غبر مصطفى مدبولي عن إطلاق مبادرة لتثبيت أو خفض بعض أسعار السلع الأساسية، ضمن برنامج تهدف من خلاله تخفيف عبء المعيشة على المواطنين. لكن رغم تلك المبادرة، شهدت الأسواق حالة من الارتباك: مصنّعو ومورّدو الزيوت النباتية وعدد من مسلّيات التجزئة انسحبوا من المبادرة، وبدأت الأسعار ترتفع مرة أخرى. هذا التقرير يستعرض الأسباب، العوامل المتداخلة، والنتائج المتوقعة لهذا التراجع المفاجئ في التزام المصنعين، مع رصد كيف أن رفع تكاليف الطاقة والإنتاج ربما هدّم الأساس الذي بُنيت عليه المبادرة.

 

الواقع: ما الذي حدث؟

 

بحسب تصريحات رسمية لعضو مجلس إدارة غرفة الصناعات الغذائية المهندس أيمن قرة، فإن عدداً من شركات الزيوت انسحب من مبادرة خفض الأسعار، التي كانت تهدف إلى تخفيض الأسعار بنحو 15 % بنهاية يوليو 2025، بعد أن قامت هذه الشركات ببيع عبوات الزيت بسعر منخفض مقارنةً بالتاريخ السابق.

 

وتشير البيانات إلى أن بعض عبوات الزيت ارتفعت من نحو 65 جنيهاً للتر في أكتوبر الماضي إلى نحو 75 جنيهاً في نوفمبر.

 

وفي المقابل، أعلنت الحكومة رفع أسعار الغاز الطبيعي للمصانع بحد أدنى دولار واحد لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (MMBtu) ابتداءً من أكتوبر 2025، ما يعني ارتفاعاً في تكلفة الطاقة للمصانع الصناعية الغذائية.

 

كما أعلنت عن رفع أسعار الكهرباء والوقود في إطار خطة تقشف، مما يزيد الأعباء على الصناعة.

 

إذًا، تتداخل عدة عوامل دفعت القطاع إلى الانسحاب من المبادرة وفي المقابل دفع المواطن إلى مواجهة ارتفاعات جديدة في أسعار الزيوت.

 

لماذا انسحب المصنعون؟

 

أولاً، ارتفاع أسعار خامات الزيوت المستوردة: مصر تستورد أكثر من 90 % من احتياجاتها من الزيوت النباتية، ما يجعل الصناعات المحلية عرضة لتقلبات البورصات العالمية وسعر الصرف. المهندس أيمن قرة أوضح أن ارتفاع سعر الخامات بنحو 15 % بين مايو ونوفمبر دفع بعض الشركات إلى الانسحاب خوفاً من البيع بخسائر.

 

ثانياً، التزام الشركات بأسعار منخفضة ضمن المبادرة جعلها تعمل بهامش ربح ضعيف للغاية (1-3 %)، حسب نفس المصادر. هذا الهامش لا يتحمّل تكاليف إضافية مثل رفع الغاز أو الكهرباء.

 

ثالثاً، رفع تكاليف الطاقة: رفع الغاز والكهرباء يعني أن تكلفة إنتاج الزيت ارتفعت، ما يقلّل من قدرة الشركات على الالتزام بالأسعار السابقة.

 

رابعاً، المنافسة مع منتجات مدعّمة أو في إطار منظومة التموين: بعض الزيوت تُطرح بأسعار مدعّمة (مثلاً عبر البطاقة التموينية) ما يقلّل التوسّع الحر للشركات الخاصة في طرح منتجاتها بأسعار أعلى.
وبالتالي، انسحبوا من المبادرة لأن الظروف الاقتصادية تغيّرت ولم تُوفّر الدولة بدائل إنتاج أو تعويضات كافية.

 

لماذا فشلت المبادرة؟

 

المبادرة التي أُطلقت كانت قائمة على مبدأ تخفيف الأسعار استناداً إلى تراجع قيمة الدولار وتحسّن بعض المؤشرات الاقتصادية. لكن في الواقع، لم ترافقها حزمة مكافئات أو حوافز للمصنعين: لم تُخفّض تكاليف الطاقة، ولم تُقدّم دعمًا للصناعات أو بدائل إنتاج محلية كافية لتعويض الفجوة.

 

كما أن رفع أسعار الغاز والكهرباء كان يأخذ من جهة ضغوطاً على الصناعة بدلاً من أن يكون دعماً لاستمرار المبادرة. الحكومة بدورها ركّزت على «مسكنات» تقليدية تثبيت الأسعار دون أن تعمّق التصنيع أو تؤمّن إنتاجاً محلياً يغني عن الاستيراد.

 

وبسبب ذلك، تحوّل الأمر من مبادرة تخفيف إلى عبء إضافي على المصنعين والمستهلكين: المصنعون بارتفاع تكلفة الإنتاج، والمستهلكون بارتفاع الأسعار مجدّداً.

 

التداعيات على المستهلك والصناعة

 

من جهة المستهلك، سيتحمل الارتفاع حقيقة أن عبوة الزيت التي كانت تُباع بسعر مدعّم في جزء كبير منها، عادت للزيادة، وهو ما يزيد من ضغوط المعيشة خاصة في ظل استقرار الأجور.

 

من جهة الصناعة، الشركات الصغيرة والمتوسطة قريبة من الانهيار لأن رفع أسعار الطاقة وزيادة الخام جعلها تعمل بخسارة أو تضطر للطرد من السوق. وأيضاً، إنتاج محلي غير مدعوم جيداً يجعل الدولة لا تستفيد من الإمكانات الصناعية الكامنة في مجال الزيوت.

 

على مستوى الاقتصاد الكلي، فشل المبادرة يعزّز صورة أن السياسات الاقتصادية لا تُنفّذ بتكامل (الطاقة، الصناعة، الاستهلاك)، مما يقلّل من ثقة القطاع الخاص ويضعف الجدوى من الاعتماد على التصنيع المحلي.

 

وفي النهاية يمكن القول إن انسحاب مصنّعي الزيوت من مبادرة خفض الأسعار يكشف عمق التناقض بين أهداف التخفيف السريع للغلاء من جهة، وبين واقع إنتاجي وطاقة وتكاليف صناعية من جهة أخرى. الحكومة تحت قيادة مصطفى مدبولي قد طرحت المبادرة بنية تخفيف الضغط على المواطن، لكنها لم تهيّئ بيئة اقتصادية متماسكة تدعم تحقيقها. رفع أسعار الطاقة، ارتفاع الخامات العالمية، وغياب تحفيز الانتاج المحلّي جعل تلك المبادرة غير قابلة للاستمرار.

 

إذا أرادت الدولة فعلًا أن تثبت الأسعار أو تخفضها بشكل مستدام، فعليها أن تضع خطة صناعية شاملة: تبدأ بدعم الطاقة، توطين الخامات، تطوير الإنتاج المحلي، وتحفيز الشركات للصمود بدلاً من الانسحاب. وإلا فسيبقى المواطن هو الطرف الخاسر، وتبقى المصانع تحت وطأة الضغوط، وتتكرّر حلقات الانسحاب وارتفاع الأسعار.