كعادته، لا يفوت عبد الفتاح السيسي مناسبة رسمية إلا ويطلق فيها وعودًا وشعارات براقة. وفي يوم القضاء المصري الموافق 1 أكتوبر من كل عام، أعلن أن "الدولة حريصة على استقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه".
لكن هذه العبارة لا تبدو سوى مادة للسخرية حين نقارنها بالواقع؛ فالرجل الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، لم يترك مؤسسة في الدولة إلا وأخضعها لسطوته، وعلى رأسها القضاء.

من قوانين مفصلة على مقاسه، إلى إحالة قضاة للمعاش بسبب آرائهم، وصولًا إلى تعيين الموالين في أعلى المناصب القضائية، سجل السيسي سلسلة طويلة من التدخلات التي تنسف استقلال القضاء من جذوره.
 

تعديلات 2017.. انقلاب على قاعدة الأقدمية
أول التدخلات الصارخة جاءت مع القانون رقم 13 لسنة 2017 الذي عدل قانون السلطة القضائية.
هذا التعديل منح رئيس الجمهورية سلطة اختيار رؤساء الهيئات القضائية (مجلس الدولة، هيئة قضايا الدولة، النيابة الإدارية، ومحكمة النقض) من بين 3 مرشحين يرشحهم المجلس الأعلى لكل هيئة، بدلًا من قاعدة الأقدمية المطلقة التي كانت سائدة لعقود.

القانون أثار أزمة كبيرة حينها، إذ اعتبره القضاة خرقًا لمبدأ الفصل بين السلطات، ومحاولة لوضع رؤساء الهيئات القضائية تحت رحمة السلطة التنفيذية.
 

إقصاء المعارضين وإحالة القضاة للتقاعد
من أبرز الأمثلة على التدخل المباشر في القضاء إحالة عدد من القضاة للتقاعد أو العزل بسبب آرائهم أو انتماءاتهم.

  • قضاة بيان رابعة (2013): تمت إحالة 75 قاضيًا للتحقيق ثم الإبعاد بعد توقيعهم على بيان يرفض فض اعتصام رابعة بالقوة.
  • المستشار هشام جنينة: رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، عُزل عام 2016 بقرار جمهوري بعد كشفه عن حجم الفساد في أجهزة الدولة، ثم لاحقته قضايا ومحاكمات سياسية.
  • المستشار زكريا عبد العزيز: الرئيس الأسبق لنادي القضاة، أُحيل للمعاش في 2016 بدعوى "اقتحام مبنى أمن الدولة" خلال ثورة يناير، رغم أن القضية كانت سياسية الطابع.
     

تعيينات على المقاس.. من القضاء إلى السياسة
التدخل لم يقف عند حد العزل، بل امتد إلى تعيين شخصيات بعينها في مواقع حساسة.

  • في 2021، جرى تعيين المستشار حنفي جبالي، رئيس المحكمة الدستورية العليا السابق، رئيسًا لمجلس النواب. الانتقال المباشر من قمة الهرم القضائي إلى رئاسة البرلمان أكد أن المناصب القضائية باتت سلمًا للولاء السياسي.
  • في 2019، صدّق السيسي على التعديلات الدستورية التي جعلته يعيّن رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس مجلس الدولة والنائب العام، وهو ما رسّخ رسميًا تبعية هذه المناصب الحساسة لرئاسة الجمهورية.
     

القضاء كأداة سياسية
في عهد السيسي، صدرت أحكام جماعية غير مسبوقة شملت:

  • قضية فض اعتصام رابعة (2018): صدور أحكام بالإعدام والمؤبد بحق مئات المتهمين في محاكمة وصفتها "هيومن رايتس ووتش" بأنها افتقرت لأبسط معايير العدالة.
  • قضية مجلس الوزراء (2015): أحكام بالسجن لعشرات الشباب بينهم الناشطة سناء سيف وأحمد دومة.
  • قضية اغتيال النائب العام (2017): أحكام إعدام مثيرة للجدل صدرت بعد محاكمات اعتمدت على اعترافات انتُزعت تحت التعذيب، بحسب منظمات حقوقية دولية.
     

القضاء تحت قبضة الرئاسة
التعديلات القانونية والدستورية بين 2017 و2019 جعلت القضاء المصري أقرب إلى "إدارة تابعة للرئاسة" لا إلى سلطة مستقلة. فالرئيس بات يعين كبار القضاة، ويقصي من يشاء، ويسخّر المحاكم لإضفاء شرعية على سياسات القمع. وحين يتحدث السيسي عن "عدم التدخل في شؤون القضاء"، فإن الواقع يكشف أن تدخله لم يعد مجرد استثناء، بل صار قاعدة تحكم علاقة السلطة التنفيذية بالقضاء.

بينما احتفل السيسي بيوم القضاء المصري بابتسامات أمام الكاميرات وتصريحات عن "الاستقلال"، كان سجل السنوات الماضية كفيلًا بفضح زيف تلك الكلمات. فالقوانين المفصلة عام 2017، والتعديلات الدستورية في 2019، والإقالات والتعيينات المسيسة، كلها شواهد دامغة على أن استقلال القضاء في مصر لم يعد سوى ذكرى. أما القضاء نفسه، فقد تحوّل من حصن للعدالة إلى أداة طيّعة لتثبيت أركان الحكم السلطوي.