تشهد منطقة وسط القاهرة في السنوات الأخيرة تحولات عميقة تحمل في ظاهرها شعار "التطوير"، لكنها في العمق تكشف عن مخطط واسع قد يؤدي إلى طمس معالمها التاريخية والتراثية الفريدة. آخر ما برز في هذا السياق كان تحركات شركة الإسماعيلية للاستثمارات العقارية، التي تخطط لتطوير 25 مبنى في قلب العاصمة، من بينها المبنى الشهير الذي يحتضن مقهى ريش، أحد أبرز معالم الذاكرة الثقافية المصرية. هذه التحركات تتقاطع مع حملة إزالات واسعة استهدفت الأكشاك والفاترينات بشارع طلعت حرب، حيث جرى إزالة أكثر من 30 فاترينة رغم وجود تراخيص رسمية تعود إلى أكثر من أربعين عاماً، ودون بديل أو تعويض، وهو ما أثار شكاوى وغضب الأهالي.

 

تحولات ملكية تحت ستار "التطوير"

في قلب هذه المعركة على هوية وسط القاهرة، جاءت تصريحات الدكتورة جليلة القاضى، أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة القاهرة وجامعات فرنسا، لتضع النقاط على الحروف. القاضي، التي تُعد واحدة من سكان هذه العمارات التراثية، قالت: "إن عمارات شركات التأمين بالقاهرة الخديوية، التى تديرها شركة مصر للأصول العقارية تحت مظلة الصندوق السيادى، شهدت تحولات كبيرة فى الفترة الماضية بشأن الملكية والإيجار القديم، ما يسمح بمرونة بيع عدد كبير منها، ويفتح الباب لإمكانية إجراء تغييرات قد تُفقد تلك العمارات طابعها التراثى والتاريخى والمعمارى".

 

العبار ومخطط "دبي الجديدة"

هذه الشهادة تكشف بوضوح أن ما يجري ليس مجرد "تطوير عمراني"، بل إعادة هيكلة لملكية وسط القاهرة بما يسمح بالبيع والخصخصة تحت ستار الصندوق السيادي. وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى شفافية إدارة هذا الملف، خاصة في ظل تصريحات محمد العبار – رجل الأعمال الإماراتي – عن تحويل وسط البلد إلى "شيء يشبه مركز دبي".

وتضيف القاضي: "كواحدة من سكان تلك العمارات، أنها علمت بوجود تحركات كبيرة للتعامل مع هذه العقارات، وأن وزارة الاستثمار، بصفتها مسؤولة عن الصندوق السيادى، كانت طرفًا فى هذه التحركات قبل يوم واحد من تصريح محمد العبار حول تحويل وسط البلد إلى شيء يشبه مركز دبى. وأشارت إلى أن بعض الجهات أوضحت أن العبار كان يقصد منطقة الوزارات التى تم إخلاؤها بعد انتقالها إلى العاصمة الإدارية الجديدة".

 

نزعة الربح مقابل حماية التراث

هذا التزامن بين تحركات الصندوق السيادي وتصريحات العبار يثير مخاوف مشروعة حول وجود مخطط متكامل لإعادة هندسة وسط القاهرة لصالح المستثمرين الأجانب، على حساب السكان الأصليين والذاكرة الجمعية للمدينة. ورغم محاولات التوضيح بأن العبار كان يقصد "منطقة الوزارات"، إلا أن الوقائع على الأرض – من إزالة الأكشاك والفاترينات، إلى خطط تطوير مبانٍ تراثية – تكشف أن وسط البلد برمته أصبح مطمعاً للاستثمارات غير المنضبطة.

وتتابع القاضي بلهجة قلقة: "عن قلقها من أن تتغلب نزعة تحقيق الأرباح على التفكير العقلانى والعلمى فى التعامل مع هذا التراث المعمارى الفريد، مشددة على ضرورة إعداد مخطط عام لمنطقة وسط القاهرة ومناقشته وإقراره، حتى يلتزم كل من يطور جزءًا منها أو حتى عمارة واحدة بمعايير ثابتة لا يجب التخلى عنها".

 

سوابق مثيرة للجدل: درس الجبانات

هذا التحذير يعكس خطراً حقيقياً: إذا تُرك الأمر لمنطق السوق وحده، ستتحول العمارات التراثية إلى مجرد أصول عقارية قابلة للبيع والشراء، بلا أي اعتبار لقيمتها التاريخية أو المعمارية. التجربة القريبة في ملف الجبانات .

وأضافت القاضي  "أن هناك سوابق تدعو للقلق، مثل ما حدث مع الجبانات، الذى أثار غضب المهتمين بالتراث، مؤكدة أنه يجب التحرك الآن قبل فوات الأوان، مع ضرورة أن يكون عمل اللجنة المشكلة لهذا الغرض معلنًا، مع عرض مشروعها للنقاش العام لضمان التزام الجميع بالتوصيات المتفق عليها".

 

غياب الشفافية وإقصاء المجتمع

لكن، هل تسمح الحكومة فعلاً بالنقاش العام والشفافية؟ أم أن القرارات تُتخذ خلف الأبواب المغلقة، وتُفرض على الناس فرضاً كما حدث مع إزالات طلعت حرب؟

القاضي ختمت بقولها: " إنها تعلم بوجود شخصيات معمارية محترمة ضمن اللجنة، لكن من الضرورى أن يكون عملها شفافًا ومعلنًا، مشددة على أهمية إشراك أهل الفن والعمارة والتراث فى كل خطوة".

إن جوهر الأزمة يكمن هنا: غياب الشفافية، وتغليب منطق الربح، وإقصاء أصحاب المصلحة الحقيقيين – سكان وسط البلد، المثقفون، المعماريون، المهتمون بالتراث – من أي مشاركة فعلية.

وفي النهاية فإن وسط القاهرة ليست مجرد عقارات أو استثمارات، إنها قلب العاصمة وتاريخها وروحها. وإذا استمر التعامل معها بمنطق "التحويل إلى دبي جديدة"، فإن مصر ستخسر واحداً من أثمن كنوزها العمرانية والإنسانية. الحكومة مطالبة اليوم بوقف منطق السرية والصفقات المغلقة، والالتفات إلى ما حذرت منه الدكتورة جليلة القاضي: الشفافية، المشاركة المجتمعية، واحترام الطابع التراثي. فالتاريخ إذا ضاع لا يُستعاد، وما يحدث الآن قد يُسجَّل كجريمة في حق هوية القاهرة.