تشهد مصر أزمة حادة في قطاع الصناعة، حيث كشف اتحاد الصناعات المصرية في سبتمبر 2025 أن عدد المصانع المتعثرة بلغ أكثر من 20 ألف مصنع، ما بين تعثر جزئي وتوقف كلي، بالإضافة إلى مصانع مغلقة بالكامل.
هذه المصانع توظف أكثر من مليون عامل وتساهم بنحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن السياسات الحكومية والظروف الاقتصادية أدت إلى تراجع حاد أدى إلى خسائر اقتصادية سنوية تقارب 100 مليار جنيه، مع تهديد حقيقي لهدف زيادة مساهمة الصناعة إلى 20% من الناتج المحلي بحلول 2030.
الأزمة بدأت منذ 2011 مع الأزمات السياسية، وتفاقمت مع جائحة كورونا ثم الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام والدولار، مما زاد تكاليف الإنتاج وأدى لتعثر واسع.
هذا التقرير يربط أرقاماً وتواريخ وتصريحات لمسؤولين واقتصاديين، ويعرض آراء مستثمرين وصغار منتجين حول الأسباب ومن يتحمّل المسؤولية الحقيقية.
حجم المشكلة.. الأرقام لا تكذب
في 28 سبتمبر 2025 صرح عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصناعات محمد البهي بأن عدد المصانع المتعثرة يتجاوز 20 ألف مصنع موزعة بين تعثر جزئي وتوقف كلي، فيما تشير بيانات حكومية سابقة إلى قوائم مرصودة تضم آلاف الحالات (مثلاً 7,422 حالة رصدتها وزارة الصناعة مع إعادة تشغيل 987 مصنعًا فقط بحسب بيانات أغسطس 2025).
هذا التباين بين تقديرات الاتحاد والخطاب الحكومي يُظهر أن أزمة الصناعة أعمق من التطمينات الرسمية.
لماذا تعثّرت المصانع؟ الأسباب الاقتصادية والهيكلية
الجهات المهنية والاقتصاديون يصفون مزيجاً من العوامل كأسباب رئيسية:
- نقص السيولة وصعوبة الحصول على تمويل ميسّر
- ارتفاع تكاليف الاستيراد بسبب تقلبات سعر الصرف
- ارتفاع أسعار الطاقة والمدخلات
- الأعباء الضريبية والرسوم الإدارية
- تعقيد الإجراءات البيروقراطية.
- سياسات فرض رسوم وقائية على بعض السلع
- الانغلاق على الأسواق التقليدية
كل هذه العوامل مجتمعة زادت من ضغوط الكلفة على المصانع الصغيرة والمتوسطة ودفعت أعدادًا هائلة إلى التعثر خلال السنوات الماضية.
دور كامل الوزير في فشل الصناعة.. إغلاق وتدمير ممنهج
يعتبر الفريق كامل الوزير، وزير الصناعة والنقل، واحداً من المسؤولين المباشرين عن تدهور الصناعة الوطنية، حسب تصريحات وتحقيقات صحفية.
إغلاق مصنع الفويل في 2019، المصنع الوحيد لإنتاج رقائق الألومنيوم في مصر، جاء تحت ضغط تنفيذ مشروعات حكومية دون تعويض أو تعويض عادل، مع بيع معدات المصنع كخردة وهدم منشآته.
هذا الحدث يعكس سياسة ممنهجة لتدمير المصانع القديمة التي كانت توفر منتجاً وطنياً، مما زاد الاعتماد على الاستيراد المكلف.
تصريحات من قِبل الوزير نفسه دعمت الاستيراد بدل التنمية الصناعية مما يؤكد سوء الإدارة وغياب خطة صناعية استراتيجية حقيقية
جدير بالذكر أن الفريق كامل الوزير تولى حقيبة الصناعة والنقل في يوليو 2024، وفي عهده أعلنت الوزارة إعادة تشغيل 987 مصنعًا وُصفت بأنها حالات إجرائية أو فنية، رقمٌ محدود مقارنة بحجم المشكلة الإجمالي.
غياب التسهيلات ودور الحكومة في تعميق الأزمة
على الرغم من وعود الحكومة بتحسين الوضع، فإن الواقع يظهر فشل ذريع في توفير تسهيلات للمصانع المتعثرة.
المبادرات التي أعلنت عنها البنوك أو الحكومة تطال فقط عدداً قليلاً جداً من المصانع، مثلاً إعادة تشغيل 25 مصنعاً فقط في 2025 من أصل آلاف المصانع المتعثرة.
هناك إصرار على تطبيق سياسات تقشفية تشدد على الالتزام بسداد الديون دون مراعاة قدرة المصانع على الاستمرار.
كما أن التنمية الصناعية المتكاملة لا تبدو على أجندة الحكومة، مع استمرار تدهور قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام، مما يزيد معاناة المصنعين.
هل تتعمّد حكومة الانقلاب الضغط على المستثمرين وأصحاب المصانع؟
المراقبون والمستثمرون يرون أن سياسات إدارة الأزمة اعتمدت أدوات ضغط بدلاً من تحفيز طويل الأمد، تعظيم دور الرسوم والالتزامات، فرض قواعد قد تصعّب استيراد الخامات، وإجراءات إدارية تعرقل الاستيراد والتشغيل.
كما أن استخدام حلول الاستحواذ الجزئي عبر صناديق يثير خشية أن تكون سياسة ما هي تحويل الأصول الصناعية إلى كيانات مرتبطة بالدولة أو بالمقربين، بدلًا من تقديم تسهيلات مباشرة كقروض بفوائد منخفضة، إعفاءات ضريبية مؤقتة، أو دعم مدخلات الإنتاج.
هذه السياسة تُفسَّر عند كثيرين كمقاربة أمنية واقتصادية تُفضّل السيطرة على الأصل الصناعي بدلاً من إنقاذ الصناعة الوطنية.
ماذا يريد المصنعون والمستثمرون فعلاً؟
رؤساء غرف صناعية ومستثمرون صغار طالبوا بصندوق تمويل يقرض بفائدة تفضيلية أو بأن لا يدخل الصندوق كشريك بملكية المصانع، وأن تركز السياسات على إسقاط جزء من المديونيات والتأمينات الاجتماعية والضرائب المتراكمة، وإتاحة أسواق تصديرية وحماية من المنافسة غير المشروعة.
هذه المطالب عملية وبسيطة، لكنها تتناقض مع نهج السيطرة الذي يتبنّاه جزء من صانعي القرار.
التوصيات السريعة
الرقم (أكثر من 20 ألف مصنع متعثر) ليس مجرد إحصاء، بل مؤشّر على فشل منظومة؛ سياسات مالية ونقدية أدّت إلى تشديد شروط الاقتراض، نظام ضريبي وإداري عقيم، وتوجّه إداري يرمي لتبادل الملكية مقابل الحلول.
إذا أرادت الدولة (أو بالأحرى حكومة قائد الانقلاب العسكري) إنقاذ الصناعة فعليًا وليس مجرد تصوير إنجازات عليها:
- إطلاق قروض ميسرة بفترة سماح وإعفاء جزئي من المديونيات والتزامات التأمينات.
- خفض الحواجز الإدارية وتبسيط استيراد الخامات الأساسية بشرط الشفافية.
- ضمان ألا تدخل صناديق الإنقاذ كشركاء دائمين يأخذون ملكية المصانع؛ بل أن تكون أدوات تمويل واستشارة واستدامة.
- حماية المنتج المحلي من المنافسة غير العادلة وفتح أسواق تصديرية بديلة.
إن استمرار سياسات الضغط والتحكّم سيحوّل آلاف المصانع المتعثرة إلى خسارة دائمة في القدرة الإنتاجية وفرص العمل، بينما يحرّك البعض ملفات الاستحواذ لصالح جهات بعينها، وهو ما لا يَخدم مصلحة الاقتصاد الوطني ولا العمال ولا ملاك المشاريع الصغرى والمتوسطة.