في الوقت الذي ترفع فيه الدولة شعارات تطوير التعليم وتحسين جودته، تكشف الأرقام الرسمية عن أزمة صامتة تهدد حاضر ومستقبل المدارس الحكومية في مصر. خلال خمس سنوات فقط، تراجع عدد المعلمين من 856 ألف معلم عام 2020/2021 إلى 681 ألف معلم عام 2024/2025، أي فقدان نحو 175 ألف معلم، في حين ارتفع عدد الطلاب من 24.4 مليون إلى 25.8 مليون بزيادة 1.4 مليون طالب.
هذا التناقض أدى إلى قفزة حادة في متوسط عدد الطلاب لكل معلم، حيث ارتفعت النسبة من 27.6 طالبًا إلى 36 طالبًا خلال خمس سنوات فقط، وهو رقم يفوق بثلاثة أضعاف المتوسط الأوروبي البالغ 12.3 طالبًا لكل معلم وفق بيانات المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي (Eurostat).
أسباب الفجوة: المعاش والهجرة
يرجع خبراء التعليم هذا التدهور إلى عاملين رئيسيين:
- المعاشات: إذ يُحال بين 45 و50 ألف معلم للتقاعد سنويًا. ورغم تعديل قانون التعليم في 2025 ليسمح بمد خدمة المعلمين بعد بلوغ سن التقاعد "في حالات الضرورة"، إلا أن نتائجه لن تظهر إلا بعد عامين أو ثلاثة أعوام على الأقل.
في الأثناء، لجأت الوزارة إلى حلول ترقيعية مثل الاستعانة بالمعلمين المتقاعدين بنظام الحصة، وهو نظام لا يوفر دخلاً مناسبًا ولا استقرارًا وظيفيًا. - هجرة المعلمين: مع تدني الرواتب الحكومية، لجأ كثير من المعلمين، خاصة في تخصصات اللغات والرياضيات والعلوم، إلى المدارس الخاصة والدولية التي توفر أجورًا أعلى، ما تسبب في نزيف مستمر للكفاءات من القطاع الحكومي.
فشل التعيينات الجديدة
الحكومة وعدت في 2022 بتعيين 100 ألف معلم خلال خمس سنوات، بمعدل 20 ألف معلم سنويًا. لكن ما تحقق أقل بكثير.
ففي يناير 2025، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن العديد من المتقدمين لم يجتازوا اختبارات الوزارة، ما عطل الجدول الزمني. وحتى منتصف 2025، لم يُعيَّن سوى 19 ألف معلم فقط، أي أقل من خمس العدد المستهدف.
هذا التأخير تسبب في اتساع الفجوة. ففي المرحلة الابتدائية ارتفع متوسط عدد الطلاب لكل معلم من 32.6 في 2022/2023 إلى 39.7 طالبًا في 2024/2025.
وفي المرحلة الإعدادية ارتفع من 25.2 إلى 35.5 طالبًا، وفي الثانوية من 22.1 إلى 28.9 طالبًا خلال الفترة نفسها.
آثار الأزمة على التعليم
هذا الخلل الخطير بين أعداد الطلاب والمعلمين لا يمكن أن يمر دون آثار كارثية:
- ازدحام الفصول: كثير من الفصول باتت تضم 60 طالبًا أو أكثر، ما يجعل من المستحيل تطبيق أي مناهج تعليمية حديثة تعتمد على الحوار والمناقشة والتفاعل.
- تراجع جودة التدريس: المعلم المثقل بعدد ضخم من الطلاب لا يستطيع متابعة الفروق الفردية أو تقديم الدعم الكافي للطلاب المتعثرين.
- زيادة الدروس الخصوصية: مع تراجع كفاءة التدريس داخل المدارس، يضطر أولياء الأمور إلى الاعتماد على الدروس الخصوصية، ما يفاقم الأعباء الاقتصادية على الأسر.
- إرهاق المعلمين: الضغط الزائد يؤدي إلى استنزاف نفسي وجسدي للمعلمين، ويدفع البعض لمغادرة المهنة أو البحث عن بدائل في القطاع الخاص أو خارج البلاد.
مقارنة دولية تكشف الفجوة
إذا كان المتوسط الأوروبي للطلاب لكل معلم يبلغ 12.3 طالبًا فقط، فإن وصول النسبة في مصر إلى 36 طالبًا يكشف عن فجوة هائلة في جودة التعليم. الدول التي تراهن على التعليم كقاطرة للتنمية تعمل على خفض الكثافة الطلابية داخل الفصول، بينما مصر تسير في الاتجاه المعاكس.
حلول مؤجلة
بدلاً من حلول جذرية، تعتمد الحكومة على سياسات مؤقتة مثل الاستعانة بالمعلمين المتقاعدين أو تمديد خدمتهم بعد التقاعد. لكن هذه السياسات لا تعالج الأزمة من أساسها. المطلوب هو:
- خطة عاجلة لتعيين عشرات الآلاف من المعلمين سنويًا.
- تحسين الرواتب والحوافز لمنع نزيف الكفاءات نحو القطاع الخاص.
- الاستثمار في تدريب المعلمين ورفع كفاءتهم لمواكبة المناهج الجديدة.
وفي ضوء ما سبق، فإن الأزمة الحالية تكشف بوضوح أن التعليم ليس أولوية حقيقية في السياسات العامة، رغم أنه يُعلن كشعار في المؤتمرات والخطط الحكومية. وبينما يتقلص عدد المعلمين وتزداد أعداد الطلاب، يتحول شعار "تطوير التعليم" إلى مجرد كلام على ورق.
إذا استمرت الأمور بهذا الشكل، فإن ملايين الطلاب سيدفعون ثمن الإهمال، وستتحول المدارس الحكومية إلى مخازن بشرية، بعيدة كل البعد عن كونها بيئة للتعلم أو الإبداع.