منذ إطلاق مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في 2015، قُدِّم للرأي العام باعتباره "مشروع القرن" الذي سيُعيد رسم خريطة العمران في مصر، ويوفر بديلاً عصريًا للقاهرة المزدحمة، ويجذب الاستثمارات الأجنبية، ويخلق ملايين الوظائف. لكن بعد مرور ما يقارب عقدًا على إطلاقه، تبدو الصورة مختلفة تمامًا: مدينة مترامية الأطراف، قليلة السكان، تعتمد على بيع الأراضي لجمع التمويل، فيما تتعثر خطط تسويق المشروعات والوحدات السكنية.
 

بيع الأراضي.. 199 مليار جنيه
كشفت تقارير رسمية أن شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية اعتمدت على بيع الأراضي كأداة رئيسية لجمع ما يقرب من 199 مليار جنيه، وهو الرقم الذي يمثل العمود الفقري لإيراداتها حتى الآن. هذا التوجه يعكس مأزقًا ماليًا خطيرًا: فبدلاً من أن تجتذب المدينة استثمارات تشغيلية حقيقية في الصناعة أو الخدمات أو السياحة، اقتصرت على المضاربة العقارية وبيع الأراضي للمطورين، في وقت يعاني فيه السوق العقاري نفسه من الركود وارتفاع الأسعار وانكماش الطلب.
 

فشل تسويق المشروعات
رغم الحملات الضخمة للترويج للوحدات السكنية والمشروعات الإدارية، لم تحقق العاصمة الإدارية الإقبال المتوقع. معظم الوحدات التي بُنيت موجهة للطبقة فوق المتوسطة والثرية، بأسعار تفوق قدرات غالبية المصريين. وفي ظل أزمة اقتصادية حادة، وتراجع قيمة الجنيه، وارتفاع تكاليف المعيشة، باتت هذه الوحدات "سلعًا كمالية" لا يقوى المواطن العادي على التفكير في شرائها.

حتى الشركات الكبرى التي دخلت المشروع اصطدمت بضعف الطلب الفعلي. ومع الوقت، تحولت العاصمة الإدارية إلى مدينة شبه فارغة، تُضاء بناياتها ليلاً لكن شققها تظل خاوية نهارًا، ما دفع كثيرين إلى وصفها بـ"مدينة أشباح".
 

أعباء على الموازنة والدين العام
على الرغم من أن الحكومة تروج للمشروع على أنه "ممّول ذاتيًا"، فإن الحقائق تكشف أن تمويل العاصمة جاء بالأساس من بيع أصول الدولة، والاقتراض غير المباشر، واستخدام موارد كان يمكن توجيهها إلى مشروعات تنموية أكثر إلحاحًا في الصحة والتعليم والصناعة والزراعة.

إنفاق مئات المليارات على مدينة جديدة، بينما ملايين المصريين يعيشون في عشوائيات محرومة من الخدمات الأساسية، يعكس أولويات مشوّهة للإنفاق العام. وبدلاً من أن تكون العاصمة وسيلة للتخفيف عن القاهرة، أصبحت عبئًا إضافيًا على الاقتصاد المصري المثقل بالديون.
 

مشروع للنخب لا للشعب
من أبرز الانتقادات الموجهة للعاصمة أنها صُممت لتكون "مدينة للنخب"، حيث تحتضن القصور الرئاسية، مقرات الوزارات، البنوك الكبرى، والمناطق السكنية الفاخرة. أما المواطن العادي، الذي يعاني من غلاء الإيجارات وأسعار الغذاء، فلا مكان له في هذه المنظومة.

حتى فكرة نقل الموظفين الحكوميين للعمل هناك لم تنجح في إحياء المدينة؛ فالكثير منهم يرفض الانتقال يوميًا إلى موقع يبعد أكثر من 45 كيلومترًا عن القاهرة، في ظل ضعف البنية التحتية للنقل العام وارتفاع تكاليف المواصلات.
 

ضياع أموال المصريين
يرى مراقبون أن العاصمة الإدارية تمثل هدرًا ضخمًا للموارد، إذ تحوّل جزء كبير من أموال المصريين إلى مبانٍ فاخرة غير مأهولة، وأراضٍ بيعت لمستثمرين كبار بهدف المضاربة. بينما تعاني المستشفيات الحكومية من نقص التجهيزات، وتعاني المدارس من التكدس، ويكابد ملايين الشباب البطالة.

وفي ظل الركود الحالي، لن تتحول هذه الاستثمارات العقارية إلى قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد، بل ستظل أصولًا راكدة تمثل "ثروة ميتة"، لا تسهم في حل مشكلات التنمية أو تحسين حياة المواطنين.
 

مدينة أشباح بامتياز
زيارة سريعة للعاصمة تكفي لاكتشاف المفارقة: طرق واسعة ومبانٍ شاهقة، لكن حركة محدودة، ومناطق سكنية تكاد تخلو من السكان. وكأن المدينة بُنيت لعرض صورة "الحداثة" أكثر من كونها مشروعًا عمرانياً يخدم ملايين المصريين.

هذه الصورة ليست استثناءً؛ بل تتكرر في تجارب مشابهة بدول أخرى، حيث تتحول المدن العملاقة المصممة على الورق إلى مشاريع عقارية فاشلة، تستنزف الموارد العامة وتترك وراءها مدنًا بلا حياة.

وفي النهاية، فبيع الأراضي كوسيلة أساسية لجمع التمويل يكشف هشاشة الأساس الاقتصادي للعاصمة الإدارية. فبدلاً من أن تكون نموذجًا للتنمية المستدامة، تحولت إلى رمز للإنفاق غير الرشيد وتغليب المصالح العقارية على أولويات الشعب. وبينما تحتفي الحكومة بالمليارات المحصلة من بيع الأراضي، يتساءل المواطنون: ما الجدوى من مدينة لا يسكنها أحد، ولا تعكس احتياجات المصريين الحقيقية؟

لقد ابتلعت العاصمة الإدارية أموال المصريين، وأنتجت "مدينة أشباح" تعكس خللاً في التخطيط وإهدارًا للموارد، ليظل السؤال قائمًا: هل كان المصريون بحاجة لعاصمة جديدة، أم كانوا بحاجة إلى دولة تستثمر في الإنسان قبل الحجر؟