في حصيلة صادمة تكشف حجم التراجع الصناعي في مصر، أعلن عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الصناعات محمد البهي أن عدد المصانع المتعثرة يتجاوز 20 ألف مصنع، ما بين تعثر جزئي وكلي، وصولًا إلى مصانع أغلقت أبوابها بالكامل. هذه الأرقام لا تعكس مجرد أزمة عابرة، بل تكشف عن خلل عميق في السياسات الحكومية التي فشلت في حماية أحد أهم القطاعات الإنتاجية في البلاد.
بداية الأزمة وتراكم الإهمال
يشير البهي إلى أن جذور التعثر تعود إلى عام 2011، مع تداعيات الثورة وما تلاها من اضطرابات سياسية وأمنية. إلا أن ما كان يُفترض أن يكون أزمة مؤقتة، تحوّل إلى نزيف دائم بفعل الإهمال الحكومي وغياب السياسات الداعمة للصناعة. ومع مرور السنوات، لم تعمل الحكومات المتعاقبة على وضع حلول استراتيجية أو خطط إصلاح حقيقية، بل اكتفت بالمسكنات والمبادرات المحدودة التي لا تعالج جذور الأزمة.
جائحة كورونا.. القشة التي قصمت ظهر المصانع
جاءت جائحة كورونا لتضاعف المعاناة، إذ أوقفت حركة الإنتاج بشكل شبه كامل، وأجبرت المصانع على تقليص ورديات العمل، ما أدى إلى موجة جديدة من التعثرات. لكن بدلاً من تدخل حكومي فعال يضمن استمرار المصانع في العمل، اكتفت الدولة بإجراءات شكلية، تاركة آلاف المنشآت الصناعية لمصيرها المجهول.
الدولار والمواد الخام.. الحكومة تتفرج
الموجة الأشد قسوة جاءت مع الأزمات الاقتصادية العالمية وتحرير سعر الصرف، حيث ارتفعت أسعار الدولار والمواد الخام إلى مستويات غير مسبوقة. بدلاً من أن تتدخل الحكومة لتوفير دعم تمويلي أو تسهيلات استيراد للمواد الأولية، تركت المستثمرين يغرقون في الديون ويواجهون مصير الإغلاق. وبهذا تحولت الصناعة الوطنية إلى رهينة قرارات مالية ونقدية لا تضع في اعتبارها سوى خدمة الديون وجذب الاستثمارات الأجنبية على حساب بقاء المصانع المحلية.
أرقام الكارثة
بحسب اتحاد الصناعات، فإن هذه المصانع المتعثرة كانت توظف أكثر من مليون عامل، وتسهم بنحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع توقفها أو تعثرها، يخسر الاقتصاد المصري ما يقارب 100 مليار جنيه سنويًا، فضلًا عن اتساع البطالة وانهيار سلاسل التوريد المحلية. ورغم ضخامة الكارثة، لم تنجح الحكومة سوى في إعادة تشغيل 25 مصنعًا فقط في 2025 عبر مبادرات البنك المركزي، وهو رقم هزيل يكشف عجز السياسات الرسمية عن استيعاب حجم الأزمة.
مبادرات حكومية عقيمة
الحكومة أعلنت مؤخرًا عن مبادرة ثالثة تستهدف إنقاذ 12 ألف مصنع، مع توفير تمويل ميسر بفائدة 15%. لكن هذه المبادرة تواجه انتقادات واسعة من الخبراء، الذين يرون أن الإجراءات البيروقراطية المعقدة وغياب الضمانات الحقيقية ستجعلها مجرد حملة دعائية لا تحقق أي إنجاز ملموس. الأدهى أن الحكومة تواصل تجاهل الأزمات الجوهرية مثل ارتفاع أسعار الطاقة والضرائب والرسوم الباهظة التي تخنق الصناعة.
تهديد مباشر لرؤية 2030
تتفاخر الحكومة برؤيتها لرفع مساهمة الصناعة إلى 20% من الناتج المحلي بحلول 2030، لكن الأرقام تكشف تناقضًا صارخًا. فإذا كانت الدولة عاجزة عن إنقاذ ما يقارب 20 ألف مصنع قائم بالفعل، فكيف ستنجح في التوسع الصناعي المنشود؟ بل إن استمرار الوضع الحالي يهدد بانكماش الصناعة بدلًا من نموها، ويضعف قدرة مصر على المنافسة إقليميًا وعالميًا.
الحاجة لإصلاحات جذرية
الحل لا يكمن في مبادرات جزئية أو وعود إعلامية، بل في إصلاحات جذرية تبدأ بتوفير تمويل حقيقي بعيدًا عن الفوائد المرتفعة، وإعادة النظر في سياسات الطاقة والتسعير، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية التي تحولت إلى عائق مزمن أمام الاستثمار المحلي. كما يجب وقف اعتماد الحكومة على جذب الاستثمارات الأجنبية وحدها، والاعتراف بأن الصناعة الوطنية هي ركيزة أي اقتصاد قوي.
وفي ضوء ما سبق فإن أزمة 20 ألف مصنع متعثر ليست مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل هي دليل على فشل السياسات الحكومية في حماية الصناعة المصرية. استمرار تجاهل هذه الكارثة يعني المزيد من البطالة، ومزيدًا من نزيف الاقتصاد، ومزيدًا من التبعية للخارج. إذا لم تتحرك الحكومة بجدية، فإن حلم مصر الصناعية لن يكون سوى شعار فارغ يُرفع في المؤتمرات، بينما ينهار الواقع على الأرض.