لم يكن حريق مصنع الملابس بالمحلة الكبرى حادثًا عرضيًا عابرًا، بل مأساة جديدة تضاف إلى سلسلة كوارث العمل في مصر، حيث ارتفع عدد الضحايا إلى 13 شخصاً من بينهم رجل إطفاء و35 مصاباً، مع تصاعد الخسائر البشرية وانهيار مبنى المصنع المقام وسط منطقة سكنية شديدة الزحام..
الحادث يكشف ـ بوضوح مؤلم ـ غياب الرقابة الحكومية، وتواطؤ الإدارات المسؤولة التي سمحت لمصنع مخالف أن يعمل بلا ترخيص، وبلا تأمين للعمال، حتى تحوّل إلى مقبرة جماعية.
ضحايا في رقاب الدولة لا المالك وحده
المسؤولية الجنائية لا تقتصر على صاحب المصنع، بل تمتد إلى أجهزة الدولة التي سمحت بوجوده وتشغيله لسنوات بلا ترخيص أو معايير أمان. كيف سمحت المحليات، والحماية المدنية، والجهات الرقابية بوجود غلايات ضخمة ومخازن كيماويات داخل مبنى عشوائي يفتقد أبسط شروط السلامة؟ هذه الأرواح التي زهقت ليست ضحايا جشع المستثمر فقط، بل ضحايا دولة اعتادت غضّ الطرف عن المخالفات مقابل مصالح أو رشى أو إهمال فادح.
عمال بلا حقوق ولا تأمين
المعاينة كشفت أن العمال لم يكونوا مؤمَّنًا عليهم، ولا تربطهم عقود رسمية بمالك المصنع. هذا يعني أن أسر الضحايا ستُترك لمصير مجهول، بلا تعويضات عادلة ولا ضمان اجتماعي. كيف تقبل وزارة القوى العاملة أن يعمل مئات العمال خارج مظلة القانون؟ وكيف سمحت النقابات الرسمية أن يظل هؤلاء بلا حماية أو تمثيل حقيقي؟ إن ما جرى يمثل صورة مكثفة من عبودية حديثة يمارسها أصحاب المصانع في ظل غياب الدولة.
الكارثة مرسومة في قلب الأحياء السكنية
المصنع كان قائماً وسط منطقة سكنية مزدحمة، أي أن الخطر لم يكن مقتصرًا على العمال بل على آلاف السكان المحيطين. الانفجار كاد يحوّل الحريق إلى مجزرة جماعية. السؤال الذي يفرض نفسه: من المسؤول عن توصيل المرافق العامة (مياه، كهرباء، غاز) إلى مبنى مخالف؟ وكيف مرّ هذا الكم من التجاوزات تحت أعين السلطات المحلية؟ الحقيقة أن ما حدث ليس سوى تجسيد لنموذج متكرر من الفساد المحلي والإداري.
بيانات حكومية ووعود فارغة
منذ الحريق، سارعت النيابة والوزارات لإصدار بيانات، وتشكيل لجان، وفتح تحقيقات. لكن المصريين اعتادوا هذه اللغة الباردة بعد كل كارثة: لجان تفتيش، قرارات غامضة، ثم طيّ الملف بمرور الوقت. السؤال الحقيقي: هل ستتم محاسبة قيادات في أجهزة الدولة التي تواطأت بالصمت أو الإهمال؟ أم ستتحول القضية إلى تحميل المسؤولية لمالك المصنع فقط، ليبقى النظام الإداري والرقابي الفاسد كما هو بانتظار الكارثة القادمة؟
العمال بين الفقر والموت
بجانب غياب الأمان، يعيش عمال مصانع الغزل والنسيج والملابس في المحلة وغيرها على أجور لا تتجاوز 4000 جنيه شهريًا، وهو ما لا يغطي حتى الحد الأدنى لتكاليف المعيشة. هؤلاء العمال يُساقون يوميًا للعمل في ظروف قاتلة، بلا معدات سلامة ولا تدريب، مقابل أجور بائسة، في حين يراكم أصحاب المصانع الثروات على حساب دمائهم. إنها معادلة ظالمة تكشف جوهر السياسات الاقتصادية المصرية التي تقدّم الربح السريع فوق حياة الإنسان.
وفي النهاية فإن حريق المحلة ليس مأساة معزولة، بل جرس إنذار متكرر على انهيار منظومة السلامة والصحة المهنية في مصر، وعلى فساد أجهزة الدولة الرقابية التي لا تتحرك إلا بعد وقوع الكارثة. إن إنقاذ حياة العمال يتطلب إرادة سياسية حقيقية تضع الإنسان فوق رأس المال، وتشمل إصلاحًا جذريًا للبنية التشريعية والرقابية، لا الاكتفاء بالتحقيقات الورقية. أما استمرار الوضع على ما هو عليه، فهو ببساطة دعوة مفتوحة إلى الحريق القادم.