شهدت محافظة بورسعيد صباح اليوم فاجعة إنسانية أدمت قلوب الأهالي، بعدما شبّ حريق هائل في شارع الحميدي بحي العرب، التهم أربعة منازل خشبية بالكامل، وأسفر عن وفاة السيدة نورا محمد الدسوقي (36 عامًا)، فيما أُصيب أربعة آخرون، اثنان منهم بحروق خطيرة، واثنان بحالات اختناق بسبب الدخان الكثيف.
ورغم أن الحادث يبدو في ظاهره كارثة عرضية، إلا أنه يعيد إلى الواجهة ملف الإهمال الحكومي المزمن، المتمثل في ترك آلاف الأسر تعيش داخل بيوت خشبية متهالكة بلا أي وسائل أمان أو تطوير عمراني، وكأن حياة المواطنين لا تساوي شيئًا أمام تقاعس الدولة.
أبنية خشبية.. قنابل موقوتة في قلب الأحياء
الحريق الأخير في بورسعيد لم يكن الأول من نوعه، بل هو مجرد حلقة في سلسلة طويلة من الكوارث التي تتكرر نتيجة وجود منازل خشبية قديمة لا تصلح للحياة الآدمية. هذه الأبنية تتحول مع كل ماس كهربائي أو شرارة بسيطة إلى محرقة تلتهم البشر قبل الحجر.
الخطير أن هذه المساكن ليست استثناءً، بل هي واقع يعيشه آلاف المواطنين في أحياء بورسعيد وغيرها من المحافظات، وسط تجاهل حكومي تام لخطورة الوضع. فلا توجد خطط واضحة لإعادة تطوير تلك المناطق أو تعويض ساكنيها بمساكن آمنة.
إهمال حكومي يكلّف الأرواح
في كل مرة تقع كارثة مماثلة، تكتفي الحكومة بالتصريحات الرنانة والوعود المؤقتة، دون اتخاذ خطوات عملية لحماية المواطنين. فغياب خطط الإحلال والتجديد، وعدم وجود أنظمة إنذار مبكر أو معدات إطفاء داخل الأحياء القديمة، جعل حياة الناس مرهونة بالصدفة.
رحيل السيدة نورا محمد الدسوقي، وإصابة أربعة آخرين، هو الثمن المباشر لهذا الإهمال، والكارثة أن هذه الأرواح ستُضاف إلى سجل طويل من الضحايا، بينما تظل الحكومة عاجزة عن مواجهة الأزمة.
استجابة متأخرة.. وإسعاف لا يكفي
شهود العيان أكدوا أن سيارات الإطفاء وصلت متأخرة، وبعد أن كان الحريق قد ابتلع معظم المنازل الخشبية. أما سيارات الإسعاف فلم تكن مجهزة بما يكفي للتعامل مع حالات الحروق والاختناق الخطيرة. هذا التأخر ليس مجرد خلل عابر، بل هو انعكاس لفشل منظومة الطوارئ في مصر، التي تعاني من نقص في التجهيزات وضعف في التنسيق بين الأجهزة.
فإذا كانت الدولة غير قادرة على حماية أرواح الناس وقت الأزمات، فما جدوى شعاراتها عن التنمية والاستثمار التي لا يرى المواطن منها إلا الأوهام؟
غياب خطط تطوير الأحياء الشعبية
الحادث يعكس بوضوح غياب أي استراتيجية حكومية جادة لتطوير الأحياء الشعبية في بورسعيد وغيرها من المحافظات. فما زالت المناطق القديمة تُترك لمصيرها، وكأنها خارج حسابات الدولة، رغم أن ساكنيها يدفعون الضرائب ويتحملون أعباء المعيشة القاسية.
المفارقة أن الحكومة تنفق المليارات على مشروعات تجميلية في العاصمة الإدارية أو مشروعات سياحية على البحر الأحمر، بينما تترك بيوتًا متهالكة تفتك بسكانها كلما شبّت فيها النيران.
المواطن يدفع الثمن.. والحكومة غائبة
المشهد في بورسعيد اليوم يلخص معادلة الظلم: مواطنون بسطاء فقدوا منازلهم ومصادر رزقهم بين ليلة وضحاها، وسيدة فقدت حياتها، بينما الحكومة تكتفي ببيانات التعزية والوعود الفضفاضة.
لا محاسبة حقيقية للمسؤولين عن غياب خطط الأمان، ولا تعويضات عادلة للضحايا، ولا رؤية لمعالجة جذور الأزمة. في النهاية، يدفع المواطن البسيط ثمن إهمال دولة تضعه في آخر سلم أولوياتها.
وفي النهاية فحادث بورسعيد ليس مجرد مأساة عابرة، بل هو جرس إنذار جديد يفضح حجم الفشل الحكومي في التعامل مع الأزمات الحضرية ومشكلات السكن الآمن. استمرار هذه الكوارث يعني أن أرواح المصريين ستظل معلقة بخيط دخان، وأن غياب الإرادة السياسية لحماية حياة الناس سيحوّل المآسي إلى مشهد متكرر لا يثير سوى الحزن والغضب.
وإذا لم تتحرك الحكومة بجدية لإعادة تطوير الأحياء القديمة وتوفير بدائل سكنية آمنة، فإن حريق بورسعيد لن يكون الأخير، بل بداية لسلسلة طويلة من المآسي التي يمكن تفاديها لو كانت حياة المواطن بالفعل أولوية.