يعيش السودان واحدة من أعقد مراحله في التاريخ الحديث، مع استمرار الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ أكثر من عام ونصف، وما خلفته من مآسٍ إنسانية واقتصادية وأمنية غير مسبوقة.
فبينما تتصاعد الاتهامات ضد "الدعم السريع" بارتكاب جرائم مروعة بحق المدنيين وصلت إلى حد الحديث عن سحب دماء بالقوة واستئصال أعضاء بشرية، تشهد مدينة الفاشر معارك عنيفة، في وقت تتفاقم فيه أزمة الكوليرا التي أودت بحياة مئات الأشخاص.
وعلى الجانب الآخر، تسعى أطراف إقليمية وأممية إلى بلورة تشاور جديد يهدف إلى وقف النار، وسط شكوك في قدرة أي مسار تفاوضي على الصمود أمام حجم الكراهية والدماء.
سرقة الدماء والأعضاء
أحدث ما أشعل الغضب الشعبي والدولي هو تقارير ميدانية وشهادات ناشطين تحدثت عن قيام عناصر من "الدعم السريع" بسحب دماء المدنيين بالقوة، بل واستئصال أعضاء من بعض الضحايا.
هذه الاتهامات، التي لم يتم التحقق منها بشكل مستقل بعد، إن صحت، تمثل جريمة حرب موصوفة، وتكشف حجم الانتهاكات التي تُمارس في مناطق سيطرة هذه القوات.
منظمة العفو الدولية ومنظمات سودانية محلية سبق أن وثقت جرائم قتل واغتصاب ونهب واسعة، لكن الحديث عن سرقة الأعضاء يرفع مستوى الجريمة إلى درجة مروعة وغير مسبوقة.
الجيش السوداني استثمر هذه الروايات لتعزيز خطابه بأن "الدعم السريع" لا يمثل قوة نظامية بل ميليشيا إجرامية تمارس أبشع صور الانتهاك بحق المدنيين.
قصف ومواجهات في الفاشر
مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، تحولت مجددًا إلى بؤرة اشتعال. فالمعارك بين الجيش و"الدعم السريع" هناك ليست مجرد معركة محلية، بل تُعتبر حاسمة لأنها تحدد مصير الإقليم بأكمله.
قصف متبادل ومناوشات عنيفة أودت بحياة العشرات خلال الأيام الأخيرة، فيما تزايد نزوح المدنيين بشكل كبير. الفاشر، التي تُعد عقدة مواصلات مهمة، كانت قد استقبلت مئات الآلاف من النازحين من مناطق أخرى، ما يجعل القصف الحالي كارثة مضاعفة على المستويين الإنساني والأمني.
المنظمات الإنسانية حذرت من أن استمرار المعارك في الفاشر سيجعلها نقطة انهيار جديدة، على غرار ما حدث في الخرطوم ونيالا والجنينة.
الكوليرا تحصد الأرواح
إلى جانب الحرب، يواجه السودانيون وباءً صامتًا: الكوليرا. وزارة الصحة السودانية، بدعم من منظمة الصحة العالمية، أعلنت ارتفاع عدد الوفيات إلى 543 شخصًا، فيما يتجاوز عدد الإصابات المؤكدة 12 ألف حالة.
انتشار الكوليرا يأتي في ظل تدمير شبه كامل للبنية التحتية الصحية، وانهيار أنظمة المياه والصرف الصحي، ما يجعل مواجهة الوباء شبه مستحيلة.
الأطباء يؤكدون أن الأرقام المعلنة أقل بكثير من الواقع، بسبب ضعف التبليغ وانعدام الإمكانيات.
الكوليرا هنا ليست مجرد أزمة صحية، بل انعكاس مباشر لتداعيات الحرب التي أغلقت المستشفيات وشتتت الكوادر الطبية، تاركة ملايين السودانيين فريسة للأوبئة.
تشاور إقليمي وأممي لوقف النار
في ظل هذا المشهد المأساوي، تحاول الأمم المتحدة بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) الدفع نحو تشاور إقليمي جديد لإيجاد مخرج سياسي. المبعوث الأممي إلى السودان تحدث عن "ضرورة وقف النار كمدخل لأي عملية سياسية"، مشيرًا إلى أن الحوار المرتقب قد يُعقد في أديس أبابا أو نيروبي خلال الأسابيع المقبلة.
لكن خبراء يشككون في نجاح أي مبادرة ما دامت القيادات الميدانية للطرفين تراهن على الحسم العسكري.
فـ"الدعم السريع" يسعى لتثبيت سيطرته على العاصمة والمراكز الكبرى، بينما الجيش يرفض أي صيغة تعترف بشرعية خصمه.
أزمة مركبة بلا أفق واضح
المشهد في السودان اليوم يختصر مأساة متعددة الأبعاد: حرب أهلية دموية، اتهامات بجرائم حرب، انهيار اقتصادي شامل، وأوبئة متفشية، مع غياب أي أفق سياسي واضح.
يرى خبراء أن استمرار هذا الوضع سيقود السودان إلى حالة دولة فاشلة بالكامل، ويجعل من التدخل الدولي أوسع وأكثر مباشرة.
وفي حين يحاول الوسطاء الدوليون إيجاد أرضية مشتركة، يبقى المدنيون هم الخاسر الأكبر، يواجهون الموت بين قصف عسكري، جرائم ميليشياوية، وأوبئة تنهش أجسادهم بلا رحمة.
وختاما فالاتهامات المروعة ضد "الدعم السريع"، ومعارك الفاشر، وأرقام الكوليرا المفزعة، تكشف أن السودان بات ساحة مفتوحة للموت بكل أشكاله.
وبينما تنشغل القوى الكبرى بالمفاوضات والضغوط، يعيش الشعب السوداني يوميًا مأساة تتعمق بلا نهاية. ما لم يتم التوصل إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار، فإن السودان يتجه نحو كارثة أكبر، قد لا ينجو منها كدولة موحدة.