تشهد محافظة السويداء السورية منذ أسابيع حالة من الغليان السياسي والاجتماعي غير المسبوق، بعدما خرجت تظاهرات رفع خلالها بعض المحتجين من أبناء الطائفة الدرزية العلم الإسرائيلي، في خطوة صادمة اعتبرها مراقبون تحدياً مباشراً للدولة السورية، ورسالة سياسية تتجاوز حدود المطالب المحلية إلى الاصطفاف في صراع إقليمي أكبر.

هذه المشاهد، التي التقطتها عدسات الكاميرات، أثارت جدلاً واسعاً داخل سوريا وخارجها، وطرحت تساؤلات حول طبيعة المرحلة المقبلة، خاصة مع تزايد الحديث عن ضغوط عربية ودولية على دمشق للانخراط في تسوية شاملة قد تُفضي إلى اتفاق مع إسرائيل برعاية أمريكية.
 

السويداء... من احتجاجات مطلبية إلى شعارات سياسية
السويداء التي بقيت طويلاً بمنأى عن خط المواجهات الكبرى في الحرب السورية، دخلت اليوم دائرة الاهتمام الدولي بسبب حراكها الشعبي.
فبينما انطلقت التظاهرات بدايةً للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وضبط الفساد المستشري، تحولت سريعاً إلى ساحة شعارات سياسية ذات بعد إقليمي، خاصة مع بروز مطالب تتحدث عن "حق تقرير المصير".

رفع العلم الإسرائيلي في هذه التظاهرات لا يمكن قراءته على أنه مجرد تصرف عفوي، بل يعكس وجود توجهات لدى بعض القوى المحلية ترى في إسرائيل سنداً أو مظلة يمكن الاحتماء بها ضد دمشق وحلفائها.
هذا التطور الخطير وضع الدولة السورية أمام تحدٍّ مزدوج: من جهة مواجهة حالة تمرد داخلي، ومن جهة أخرى التعامل مع استغلال إسرائيلي علني للأزمة.
 

إسرائيل والورقة الدرزية
إسرائيل تاريخياً حاولت توظيف الأقليات في محيطها، ومن أبرزها الطائفة الدرزية.
فقد سعت منذ عقود إلى استمالة دروز الجولان، وها هي اليوم تتابع عن كثب ما يجري في السويداء.

رفع العلم الإسرائيلي في المحافظة يُستخدم من قبل الإعلام العبري لتصوير النظام السوري وكأنه يواجه "تمرداً طائفياً" وليس مجرد أزمة اقتصادية، وبالتالي يبرر تل أبيب في الدفع نحو إعادة رسم خريطة النفوذ داخل سوريا.
 

ضغوط التسوية الإقليمية
بالتوازي مع ذلك، تتسارع خلف الكواليس محاولات الوصول إلى اتفاق ضرورة بين سوريا وإسرائيل، يقوده دبلوماسيون عرب وغربيون، مع اقتراب الإعلان عن تفاهمات قد تغير قواعد اللعبة.
يبرز هنا اسم فاروق الشرع، النائب السابق للرئيس السوري ووزير الخارجية الأسبق، الذي يُعاد طرحه كواجهة سياسية قادرة على فتح قناة اتصال مع الغرب وتسهيل تمرير أي اتفاق.

الشرع، المعروف بعلاقاته الدولية وخبرته التفاوضية منذ مؤتمر مدريد وحتى مفاوضات التسعينيات، قد يعود إلى الواجهة في لحظة يرى فيها بعض العواصم العربية أن بقاء سوريا معزولة لم يعد خياراً عملياً.
الضغط العربي يقوم على معادلة واضحة: تطبيع سوريا إقليمياً مقابل مرونة في الموقف من إسرائيل.
 

لماذا تُضطر سوريا للتنازل الآن؟
هناك عدة أسباب تدفع دمشق نحو هذه الزاوية الحرجة:

  • الوضع الاقتصادي المنهك: سنوات الحرب والعقوبات دمرت البنية التحتية والاقتصاد السوري. لم تعد الحكومة قادرة على تلبية أبسط مطالب الشارع، كما يظهر في احتجاجات السويداء.
  • الضغط العربي: دول عربية مؤثرة ربطت أي دعم اقتصادي أو انفتاح سياسي على دمشق بضرورة خفض التصعيد مع إسرائيل والدخول في مسار تسوية.
  • الوجود الإيراني: إسرائيل تواصل استهداف مواقع إيرانية في سوريا بضوء أخضر أمريكي، ما يضع دمشق أمام معادلة استنزاف دائم ما لم تدخل في تفاهم يقلل من هذه الضربات.
  • الملف الكردي: واشنطن تمسك بالورقة الكردية في الشمال الشرقي، وتلوح بها كورقة ضغط إضافية لدفع دمشق نحو تنازلات.
  • العامل الروسي: موسكو، المثقلة بأعباء الحرب في أوكرانيا، لم تعد قادرة على توفير الغطاء الكامل لسوريا كما في السابق، وهي نفسها تسعى لترتيب تفاهمات مع إسرائيل وأمريكا.
     

نحو خريطة جديدة؟
ما يجري في السويداء ليس مجرد احتجاج محلي، بل جزء من لوحة إقليمية أوسع تتجه نحو إعادة تشكيل العلاقة بين دمشق وتل أبيب.
رفع العلم الإسرائيلي هناك هو مؤشر على حجم الفجوة بين الدولة السورية وبعض مكوناتها، وهو في الوقت ذاته ورقة ضغط تستخدمها قوى خارجية للدفع نحو تسوية لا مفر منها.

إذا عاد الشرع إلى الواجهة، فسيكون ذلك مؤشراً على أن سوريا تستعد للانخراط في مسار جديد، قد يثير جدلاً داخلياً واسعاً، لكنه يعكس واقعاً لا تستطيع دمشق الهروب منه: إما الانفتاح على إسرائيل وفق شروط الحد الأدنى، أو مواجهة عزلة وانهيار أعمق.

وبينما تبقى السويداء مرآة لاحتقان الداخل السوري، فإن رفع العلم الإسرائيلي فيها شكّل رسالة صاخبة بأن الأزمة السورية لم تعد محصورة في الجغرافيا المحلية، بل أصبحت عقدة أساسية في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية.