أثارت تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي طالب فيها حركة طالبان الأفغانية بإعادة قاعدة باغرام الجوية إلى القوات الأميركية، موجة من الجدل حول دوافعه الحقيقية، ومدى ارتباطها بالتحولات الاستراتيجية الكبرى في آسيا.
رغم أن مثل هذه التصريحات ليست جديدة على "أزعر واشنطن"، على حد وصف المحلل السياسي ياسر الزعاترة، فإن توقيتها وخلفياتها تستدعي التوقف والتحليل، خاصة أنها جاءت مقرونة بالحديث عن الموقع الاستراتيجي للقاعدة على مقربة من الصين.
باغرام.. عقدة أميركا القديمة
قاعدة باغرام الجوية، الواقعة شمال العاصمة كابول، مثّلت لعقدين من الزمن مركز الثقل العسكري الأميركي في أفغانستان، قبل أن تغادرها القوات الأميركية في صيف 2021، تاركة ورائها صورة الانسحاب المذل. بالنسبة لترامب، الذي اتخذ بنفسه قرار بدء الانسحاب من أفغانستان، تعود القاعدة لتطفو على السطح باعتبارها "فرصة استراتيجية ضائعة".
لكن إعادة طرحها اليوم لا يبدو مرتبطًا فقط بالداخل الأميركي أو بالجدل حول سياسات بايدن، بل يتجاوز ذلك إلى سياقات إقليمية ودولية أوسع.
المحلل محمد حامد يرى أن ترامب يحاول استثمار ذكرى القاعدة كأداة ضغط سياسي وانتخابي، عبر الإيحاء بأن الديمقراطيين أضاعوا فرصة تطويق الصين من الخاصرة الأفغانية.
الصين في قلب الحسابات
اللافت أن ترامب ربط مباشرة بين مطلبه وبين قرب القاعدة من الصين. هذا التصريح يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الساسة الأميركيين – سواء في الحكم أو المعارضة – بأن المنافسة مع بكين هي المعركة المركزية المقبلة.
فالوجود الأميركي في أفغانستان، لو استمر، كان سيعني قدرة أكبر على مراقبة الحدود الغربية للصين، بما في ذلك إقليم شينجيانغ الحساس.
الباحث عدنان أبو عامر يؤكد أن ربط ترامب بين باغرام والصين ليس اعتباطيًا، بل يندرج في إطار استراتيجيا أميركية ممتدة هدفها تطويق الصين عسكريًا واقتصاديًا عبر شبكة من التحالفات والقواعد، وإن كان أسلوب ترامب في التعبير فوضويًا ومبالغًا فيه.
باكستان في خلفية المشهد
تحليل آخر يربط تصريحات ترامب بالوضع في باكستان، البلد المجاور لأفغانستان والذي يمتلك قدرات نووية مقلقة بالنسبة لواشنطن وتل أبيب.
بعض المراقبين اعتبروا أن إثارة قضية باغرام في هذا التوقيت ليست بعيدة عن التطورات الأخيرة في إسلام آباد، لا سيما ما يخص علاقاتها المتجددة مع السعودية واتفاقاتهما الاقتصادية والعسكرية.
الزعاترة أشار في تغريدته إلى أن العقل الصهيوني لم يتوقف يومًا عن التفكير في البرنامج النووي الباكستاني، وأن اقتراب أي قوة أجنبية من أفغانستان لا يمكن فصله عن هذه الحسابات.
الباحث هاني رسلان يرى أن الولايات المتحدة – سواء بلسان ترامب أو غيره – ما زالت ترى أن السيطرة على أفغانستان تضمن لها أوراق ضغط إضافية في الإقليم الممتد من الهند إلى الخليج.
طالبان بين الاستنزاف والمناورة
من جهة أخرى، تبدو تصريحات ترامب وكأنها تتجاهل حقيقة أن طالبان هي التي أجبرت واشنطن على الانسحاب بعد عقدين من الاستنزاف العسكري والمالي.
هذه الحركة التي توصف اليوم بأنها لاعب سياسي داخلي ودولي، ليست في وارد التفريط في سيادتها لصالح عودة الأميركيين.
الزعاترة لفت إلى أن طالبان تدرك جيدًا توازنات القوى الدولية وتعمل على استثمار التناقضات بين واشنطن وموسكو وبكين لتعزيز موقعها، وهي لا تضع أي وزن لتهديدات من قبيل "أشياء سيئة ستحدث"، التي يطلقها ترامب.
المحلل محمود مراد يضيف أن طالبان اليوم أكثر براغماتية، وهي تدرك أن ورقة القاعدة العسكرية قد تكون مطمعًا للقوى الكبرى، لكنها تراها في المقابل ورقة تفاوضية لتعزيز شرعيتها.
ترامب.. بلطجة السياسة
أكثر ما يثير الانتباه في المشهد هو أسلوب ترامب نفسه. فهو يتعامل مع السياسة الدولية بمنطق صفقات العقارات ولغة البلطجة، كما يقول الزعاترة، لا سيما حين يلوّح بالتهديد والوعيد من دون سند قانوني أو سياسي.
هذا الأسلوب قد يجد صداه بين قاعدته الانتخابية في الداخل الأميركي، لكنه يبدو منفصلًا عن الواقع الدولي الذي يتجه نحو إعادة تشكيل موازين القوى.
الباحث جلبير الأشقر يذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن تصريحات ترامب تكشف عن عقلية لا تزال ترى العالم من منظور الهيمنة المطلقة، في وقت تتآكل فيه فعليًا أدوات السيطرة الأميركية.
وأخيرا فتصريحات ترامب حول قاعدة باغرام ليست مجرد نزوة عابرة، بل تعكس رؤية أوسع للتيار اليميني الأميركي الذي يضع مواجهة الصين في قلب استراتيجيته، حتى لو كان الثمن عودة إلى مغامرات عسكرية ثبت فشلها.
في المقابل، تُظهر طالبان صلابة في رفض أي وجود أجنبي على أرضها، بينما تظل باكستان والصين وروسيا جزءًا من المعادلة التي تحكم هذا الملف.
وبينما يستخدم ترامب هذا الخطاب لمناكفة خصومه السياسيين، فإن العالم يعيش بالفعل مرحلة إعادة تشكيل كبرى، حيث لم تعد لغة التهديد والبلطجة كافية لفرض الهيمنة.