مرة أخرى تثبت الحكومة أن عينها معلّقة على الدولار أكثر من نظرها إلى الأرض والفلاح. قرار رفع حجم الصادرات المسموح بها لشركات الأسمدة المحلية إلى 55% من إجمالي الإنتاج ليس سوى تكريس لسياسة ترى في الزراعة مجرد أداة لجلب العملة الصعبة، لا ركيزة للأمن الغذائي.
الحديث الرسمي عن "تثبيت الأسعار المدعمة" ليس إلا تضليلاً؛ فالفلاح في الواقع لا يحصل إلا على ربع احتياجاته بالسعر المدعوم، فيما يُترك ثلاثة أرباعها للسوق الحر بأسعار متقلبة ومرتفعة.
النتيجة أن الفلاح المصري يُستنزف، بينما الحكومة تتباهى بأرقام صادراتها.
هذا القرار لا يلبّي حاجات الزراعة ولا المستهلك، بل يدفع البلد نحو أزمة غذاء مضمونة إذا استمر النهج ذاته.
واقع الفلاح مع الأسمدة
الفلاح المصري يعيش منذ سنوات أزمة مزمنة في الحصول على السماد. الكميات التي توزّعها الجمعيات الزراعية بالكاد تغطي 25% من احتياجاته الفعلية.
البقية يضطر لشرائها من السوق الحر، حيث الأسعار تزداد مع كل موجة تصدير.
الدكتور محمد عبدالسلام، الخبير الزراعي وعضو لجنة الزراعة السابق بالبرلمان، يؤكد أن "الحكومة تتحدث عن دعم السماد وكأنها تمنحه بالكامل للفلاح، بينما الواقع أن الدعم شكلي والفلاح يدفع الفرق من جيبه".
هذه الفجوة بين الخطاب الرسمي وحقيقة السوق تجعل الفلاحين الحلقة الأضعف في معادلة يراد لها أن تخدم شركات التصدير أولاً.
أثر القرار على أسعار الغذاء
لا يمكن فصل أزمة السماد عن مائدة المواطن. فكل زيادة في تكلفة السماد تعني مباشرة زيادة في تكلفة إنتاج الطماطم والبطاطس والخيار وغيرها من المحاصيل الأساسية.
الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة، شدد في أكثر من تصريح على أن "تصدير الأسمدة قبل إشباع السوق المحلي جريمة ضد الأمن الغذائي"، مشيراً إلى أن الأمن الغذائي المصري يقوم أساساً على الخضروات والفواكه المنتَجة محلياً.
ومع تضخم أسعار الأسمدة، تتحول الزراعة إلى عبء لا يُطاق على الفلاح، وينعكس ذلك في صورة ارتفاع أسعار الغذاء، ما يرهق المواطن البسيط ويضاعف أزمات التضخم.
تطور قيمة الصادرات المصرية خلال السنوات الخمس الماضية
شهدت الصادرات المصرية تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الخمس الماضية، حيث ارتفعت من 23.9 مليار دولار في عام 2021 إلى 44.8 مليار دولار في عام 2024، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
تفصيل تطور الصادرات المصرية:
- 2021: بلغت قيمة الصادرات المصرية 23.9 مليار دولار.
- 2022: ارتفعت إلى 30.3 مليار دولار.
- 2023: سجلت 36.5 مليار دولار.
- 2024: وصلت إلى 44.8 مليار دولار.
- 2025 (حتى مارس): تجاوزت 9 مليارات دولار، مسجلة نموًا بنسبة 11.1% مقارنة بنفس الفترة من عام 2024.
المستفيد الحقيقي من القرار
الحكومة تبرر قرارها بأنه يوازن بين الصادرات والسوق المحلي، لكن الواقع يقول غير ذلك.
المستفيد الأول هم شركات الأسمدة التي تبيع في الخارج بأسعار مضاعفة مقارنة بالسوق المحلي.
المستفيد الثاني هو الحكومة التي تبحث عن موارد سريعة من العملة الصعبة لسد فجوة النقد الأجنبي.
أما الفلاح فهو الخاسر الأكبر، لأنه يُضطر لشراء معظم احتياجاته من السوق الحر. والمستهلك أيضاً خاسر، إذ يتحمل زيادة الأسعار في غذائه اليومي.
الدكتور سعد نصار، مستشار وزير الزراعة الأسبق، علّق على ذلك قائلاً: "الحكومة تضع أولوياتها المالية قبل أولويات الزراعة الوطنية، وكأنها تدير الأسمدة كسلعة للتصدير لا كمدخل إنتاج للأمن الغذائي".
الأبعاد السياسية والاقتصادية
هذا القرار يعكس غياب رؤية استراتيجية متوازنة. الحكومة تتعامل مع الزراعة كقطاع ثانوي يخدم الموازنة العامة، لا كصمام أمان غذائي.
الدكتور محمد غنيم، خبير التنمية الزراعية، حذّر قائلاً: "ما يجري هو تضحية بمستقبل الزراعة في سبيل إنقاذ لحظي لميزان المدفوعات".
الخطر الأبعد يتمثل في عزوف الفلاحين عن زراعة محاصيل أساسية لعدم الجدوى الاقتصادية، وهو ما قد يؤدي إلى تقلص الرقعة الزراعية وانكشاف البلاد أمام استيراد الغذاء بالعملة الصعبة نفسها التي تبحث عنها الحكومة اليوم.
البدائل الممكنة
الحل ليس مستحيلاً. هناك بدائل يمكن أن تحقق التوازن بين التصدير والاحتياجات المحلية:
- ضمان حصص كافية للفلاحين تغطي كامل احتياجاتهم الفعلية من السماد بسعر مدعوم.
- زيادة الطاقة الإنتاجية للمصانع بحيث تُوجّه الزيادة إلى التصدير دون المساس بالسوق المحلي.
- تقديم دعم مباشر للفلاحين عبر قروض ميسرة أو برامج تعويض عن فارق أسعار السماد.
- ربط تصدير الأسمدة بتحقيق الاكتفاء المحلي أولاً. الدكتور نادر نور الدين طالب مراراً بأن "يُمنع تصدير كيلو سماد واحد إلا بعد ضمان احتياجات الفلاحين بنسبة 100%".
وختاما فقرار رفع الصادرات إلى 55% لا يخدم الفلاح، ولا يحمي المستهلك، بل يخدم شركات الأسمدة والحكومة الباحثة عن الدولار. النتيجة أن الفلاح يظل مُهمَّشاً ومُرهقاً بتكاليف لا يقدر عليها، بينما المواطن يواجه غلاء غذاء متصاعد. إذا لم تُراجع الحكومة سياستها، فإن أزمة السماد ستتحول سريعاً إلى أزمة غذاء، ومعها أزمة اجتماعية تهدد الاستقرار. الزراعة ليست رفاهية، بل أمن قومي، وأي سياسة تتجاهل الفلاح اليوم ستدفع ثمنها الدولة كلها غداً.