في حادثة صادمة تعيد فتح جراح قديمة، أُعلن عن سرقة أسورة نادرة من الذهب الخالص تزن 600 جرام من الذهب النادر من داخل المتحف المصري بالتحرير. الواقعة حدثت أثناء عملية إعداد 140 قطعة أثرية للسفر إلى فرنسا، ضمن معارض "الترويج للحضارة المصرية" التي باتت موضع جدل لا ينتهي.

لكن خلف هذا الخبر الصغير تكمن أسئلة أكبر: كيف تضيع قطعة بهذه القيمة من أكثر متاحف العالم شهرة؟ ومن المستفيد من استنزاف تراث أمة تحت ستار "الإعارة" و"العرض الدولي"؟

 

القطعة المفقودة: ذهب لا يُقدّر بثمن

الأسورة المسروقة ليست مجرد حُلية. وزنها 600 جرام من الذهب النادر، وقيمتها الحضارية والفنية لا تُقدَّر بمال. مثل هذه القطع تحمل في طياتها قصة عن صائغي الذهب في مصر القديمة، عن الملوك والكهنة، عن ثقافة أبهرت العالم لآلاف السنين. ومع ذلك، اختفت في لحظة بين جدران يفترض أنها محصّنة بالكاميرات والحراس والبوابات الإلكترونية.

 

متحف التحرير: أسطورة أم "مخزن مفتوح"؟

المتحف المصري بالتحرير ليس متحفًا عاديًا. هو القلب النابض للهوية المصرية، ورمز عالمي للآثار الفرعونية. لكن تكرار وقائع الفقدان والسرقة حوّله، في نظر كثيرين، من "صرح عالمي" إلى "مخزن مفتوح".
خبراء آثار تحدثوا مرارًا عن ضعف منظومة التأمين: كاميرات معطلة، سجلات ورقية مهترئة، وحراس يعملون برواتب زهيدة لا تكفي للالتزام أو الردع. كيف إذن نصدّق أن آلاف القطع تُنقل من هنا إلى هناك بأمان كامل؟

 

سلسلة طويلة من التهريب

سرقة الأسورة ليست استثناء. آلاف القطع الأثرية هُرّبت خلال العقود الماضية إلى متاحف كبرى: لوفر أبوظبي يعرض عشرات القطع المصرية المثيرة للجدل، اللوفر في باريس لا يزال يحتفظ بمقتنيات خرجت بطرق مشبوهة، وحتى المتحف البريطاني يضم قطعًا يطالب المصريون باستردادها.

ولعل أشهر قضية مؤخرًا كانت تهريب تماثيل وألواح حجرية عبر تجار آثار دوليين إلى متاحف أوروبية وأمريكية، لتبدأ بعدها معارك قضائية طويلة من أجل الاسترداد. كل ذلك يحدث بينما تواصل الدولة إرسال عشرات المعروضات في جولات "دعائية" للخارج، وكأن الدرس لم يُستوعب.

 

إعارة أم تهريب مقنّن؟

الواقعة الأخيرة فجّرت جدلًا قديمًا: هل إعارة القطع الأثرية للمعارض الخارجية وسيلة للترويج السياحي أم بوابة مفتوحة للتهريب المقنّن؟

خبراء استنكروا أن تُرسل 140 قطعة دفعة واحدة في وقت يشتعل فيه النقاش حول أمن المتاحف. أحد أساتذة الآثار وصف الأمر بأنه "مقامرة بتراث الأمة"، مؤكدًا أن "الإعارة تحوّلت إلى تجارة سياسية واقتصادية، تُعرّض الآثار لمخاطر لا حصر لها".

 

صمت يثير الريبة

حتى الآن، الردود الرسمية لم تتجاوز التطمينات العامة: لجان جرد، تحقيقات إدارية، ووعود بمحاسبة المسؤولين. لكن الشارع الثقافي يسأل: أين الشفافية؟ لماذا لا يُعلن حجم الخسائر بدقة؟ ولماذا لا تُنشر نتائج التحقيقات السابقة التي طويت في الأدراج؟

الخشية أن تتحول القضية إلى "خبر عابر" مثل عشرات الأخبار السابقة، ثم يُطوى الملف دون محاسبة حقيقية.

 

ثغرات صارخة

الواقعة كشفت عدة ثغرات لا يمكن تجاهلها:

  • نقل القطع بلا رقابة علنية: الاكتفاء بلجان داخلية دون مشاركة خبراء مستقلين.
  • ضعف الحصر الإلكتروني: الاعتماد على سجلات ورقية يُسهّل التلاعب.
  • تكرار الإعارات: مئات القطع تسافر سنويًا بينما الآثار المحلية بحاجة لحماية وصيانة.
  • غياب الردع: لم يُعلن عن عقوبات رادعة بحق مسؤولين في قضايا سابقة، مما يشجع على التسيب.

 

الخلاصة: تراث في مهب الريح

سرقة الأسورة ليست مجرد حادثة جنائية، بل مرآة لعجز منظومة كاملة. بين إهمال الحماية، وتوسع الإعارات، وتاريخ طويل من التهريب، يجد المصريون أنفسهم أمام سؤال مؤلم: هل تراثنا في أيدٍ أمينة؟

حتى تُعلن نتائج واضحة وتُتخذ إجراءات صارمة، ستبقى كل قطعة أثرية معرّضة للاختفاء في صمت، ليجدها العالم لاحقًا في متحف بعيد، بينما يكتفي المصريون بالحسرة.مة لم تُحدث تحولًا، بل عمّقت الغضب، وأكدت أن الطريق إلى حماية غزة لا يمر عبر بيانات ختامية، بل عبر إرادة سياسية مفقودة حتى الآن.