في خطاب ألقاه عبد الفتاح السيسي أمس، تناول ملف الإعلام في جلسة مع قيادات إعلامية، حيث كرر نفس الشعارات التقليدية عن "الحاجة لشعب واعٍ ومثقف" و"استعادة النسيج السياسي"، لكنه غاب عنه الاعتراف بأزمة الإعلام الحقيقية التي تتخبط فيها مصر منذ سنوات.

لم يكن حديث السيسي سوى محاولة للتغطية على الفشل الذريع في إدارة الإعلام، إذ لا تزال وسائل الإعلام الرسمية تُمارس التضليل، وتفرض سياسة الصوت الواحد، وتُقصي كل صوت مستقل أو ناقد، بينما يتزايد تجهيل الشعب وتضييق حرية التعبير.

هذا الخطاب لا يقدم حلاً جذرياً، ولا يعكس الواقع المرير الذي يعاني منه الإعلام المصري، الذي تحول إلى منصة للتطبيل للنظام وتكريس الكذب والتزييف، بدلاً من أن يكون أداة للتنوير والتثقيف.
 

إقالات ممنهجة للإعلاميين البارزين: تصفية أو ترهيب؟
في السنوات الأخيرة، شهد المشهد الإعلامي المصري إقالات وإزاحات متكررة طالت إعلاميين كانوا محسوبين على النظام في البداية، لكن سرعان ما وقعوا في دائرة الاستبعاد، مثل:

  • لميس الحديدي (وقف برنامج "هنا العاصمة" 2024 رغم شعبيته الواسعة)
  • عماد الدين أديب (تعرض للإيقاف أكثر من مرة، وفي 2023 أزيل من قنوات مثل "ON" بعد خلافات)
  • إيمان الحصري (تم إبعادها عن تقديم برامج سياسية بارزة)
  • وائل الإبراشي (توفي وسط ظروف غامضة، وكان صوتا ناقدًا في بعض الفترات)
  • أحمد موسى (تم تقليص ظهوره رغم ولائه الواضح للنظام)

هذه الإقالات لم تكن فقط بسبب أداء أو تقييم، بل تكشف عن حالة عدم ثقة أو رغبة في السيطرة المطلقة على الخطاب الإعلامي، مع رفع لوتيرة الخوف والرقابة الذاتية بين الإعلاميين.
كما أن هذه  الإجراءات تعكس سياسة واضحة لتصفية كل الأصوات التي لا تلتزم بتوجيهات السلطة، مما يرسخ بيئة إعلامية خالية من التنوع والحرية.
 

تدهور مهني كارثي: الإعلام بين الرداءة والتطبيل
مع سيطرة الأجهزة الأمنية على المشهد الإعلامي، شهدت البرامج الحوارية والمحتوى الصحفي تدهورًا مريعًا في الجودة والمصداقية، حيث غدت البرامج ساحة للتطبيل وتسقيط المعارضين، بعيدًا عن المهنية الصحفية والموضوعية.
 

تجهيل الشعب: الإعلام أداة للسيطرة على الوعي
بدل أن يكون الإعلام منبرا للحقائق، صار أداة لتجهيل المجتمع وإلهائه بأخبار ومعلومات مضللة، مع تغييب القضايا الحقيقية التي تؤثر في حياة المواطن اليومية، الأمر الذي يعمق أزمة الوعي ويقود إلى استسلام شعبي أكبر.
 

إعلام الصوت الواحد: اختفاء التنوع والتعددية
غياب الأصوات المعارضة والناقدة، وتحكم النظام في خطابات الإعلام الرسمية، أنتج بيئة إعلامية تُحكم فيها رقابة صارمة على الأفكار، مما أضعف الحوار الوطني وأفقد الجمهور ثقة الإعلام الرسمي.
 

تصريحات أحمد المسلماني: دعوة للتغيير أم تكريس للواقع؟
في مقابلة حديثة، صرّح أحمد المسلماني، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، بأن الرئيس السيسي أكّد على ضرورة الاستعانة بـ"الشباب المتمكن مهنيًا وعلميًا" في الإعلام، بعيدًا عن "الواسطة والمجاملات" .

وأضاف المسلماني أن السيسي شدّد على أهمية الانتقال من "القوة الصلبة إلى الناعمة"، مشيرًا إلى أن الإعلام له دور محوري في بناء "الشخصية المصرية الواعية والمثقفة" .

ورغم هذه التصريحات، يظلّ التساؤل قائمًا: هل هذه الدعوات للإصلاح حقيقية، أم أنها مجرّد مسكنات لتخفيف الانتقادات الموجّهة للنظام؟
 

الهيمنة الأمنية والملاحقات: الإعلام بين سطوة الأجهزة وقمع الحريات
استخدام السلطات لقوانين مكافحة الإرهاب والتجسس لتكميم الأفواه، أدى إلى اعتقال الصحفيين، حجب المواقع، وملاحقة الإعلاميين المستقلين، في جو من الخوف العام الذي يطبع المشهد الإعلامي.
 

التمويل الخليجي وأجندة الإعلام المصري
اعتماد القنوات المصرية على التمويل الخليجي يُظهر تحولات في المضمون السياسي، حيث تهيمن سياسات دول الخليج على الخطاب الإعلامي، مكرسة بذلك تحالفات خارجية على حساب السيادة الإعلامية الوطنية.
 

الإعلام الحكومي: منصة دعاية وهمية منفصلة عن الواقع
قنوات الدولة ووكالات الأنباء الحكومية تقدم صورة مزيفة للواقع، متجاهلة أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة، مقدمة برامج مصممة لتجميل صورة النظام وزرع الأمل الوهمي.
 

تضييق الخناق على الإعلام الرقمي: محاولات لقطع أي منافذ حرية
مع تزايد أهمية الإعلام الرقمي، قامت السلطات بحجب مواقع ومنع نشاطات الصحفيين عبر الإنترنت، مستغلة قوانين قمعية لتضييق المساحات المتبقية للحرية والتعبير.
 

التلاعب بالعقول: الإعلام كآلة للدعاية
يُستخدم الإعلام الرسمي لتزييف الحقائق، تشويه المعارضين، وتوجيه الرأي العام لخدمة مصالح النظام، مع غياب كامل للمصداقية المهنية التي يجب أن تحكم المهنة الإعلامية.
 

محاولة الإصلاح المتأخرة: دعوات لاستعادة "كوادر 30 يونيو"

خطاب السيسي الأخير دعا إلى استعادة كوادر الإعلام القديم، محاولة لإعادة بناء النسيج السياسي الإعلامي، لكن يبقى السؤال: هل هذه الخطوة كافية وسط هذا الانهيار المهني والسياسي؟

بينما يُعلن السيسي عن رغبته في تطوير المشهد الإعلامي، يظلّ الواقع يشير إلى استمرار الهيمنة الأمنية على وسائل الإعلام وتقييد الحريات الصحفية.
يبقى السؤال الأهم: هل ستتحوّل التصريحات إلى خطوات عملية ملموسة، أم ستظلّ مجرّد وعود تُضاف إلى سجلّ الوعود غير المنفّذة؟