في وقتٍ تتحدث فيه الحكومة عن "إنجازات" الطاقة، تواجه البلاد واقعاً اقتصادياً مريراً يتمثل في دفع أكثر من 800 مليون دولار لسداد شحنات غاز طبيعي مسال تم استيرادها بنظام الدفع الآجل، في مؤشر واضح على هشاشة ملف الطاقة الوطني، واعتماد الدولة المتزايد على الاستيراد بعد أن كانت "تصدّر الفائض".
هذه الأزمة تفضح فشل التخطيط، وتكشف كيف تتحمل خزينة الدولة كلفة قرارات مرتجلة، في ظل تراجع الإنتاج المحلي للغاز، وتدهور البنية التحتية للطاقة.
 

من دولة مصدّرة إلى أكبر مستورد عربي
تحولت مصر في عام 2025 إلى أكبر مستورد عربي للغاز الطبيعي المسال، متجاوزة الكويت، بعدما كانت تروج لاكتفاءها الذاتي من الغاز. السبب: تراجع الإنتاج المحلي، وزيادة استهلاك السوق، وضعف استثمار الدولة في تنمية الحقول.

التحول لم يكن اختيارياً بل اضطرارياً، بعدما فشلت الحكومة في الحفاظ على معدلات إنتاج مستدامة، ما دفعها لاستيراد أكثر من 155 شحنة غاز مسال في 2025 وحدها، بتكلفة مليارات الدولارات، في ظل أزمة دولار خانقة.
 

ديون الغاز تتراكم.. والخزينة تنزف
الحكومة تعتزم سداد نحو 810 ملايين دولار لشحنات تم توريدها خلال مايو ويونيو فقط. شحنات يناير إلى أبريل دُفعت فوراً، لكن العجز المالي أجبر الدولة على التحوّل إلى نظام الدفع الآجل، ما يضع عبئًا ماليًا هائلًا على ميزانية الدولة.

في نوفمبر فقط، يجب دفع 324 مليون دولار، تليها 486 مليونًا في ديسمبر، بينما لا يزال جدول الشحنات مستمرًا. المواطن لا يشعر بأي تحسن، لكن الدين العام يتضخم، والدولة تغرق في التزامات قصيرة الأجل دون أي إصلاح حقيقي في قطاع الطاقة.
 

حكومة تُؤجّل.. وتشتري الغاز بعشوائية
في مشهد يكشف غياب التخطيط، طلبت "إيجاس" تأجيل ما لا يقل عن 20 شحنة غاز مسال كانت مقررة قبل نهاية 2025، بسبب انخفاض الاستهلاك. الدولة تتعاقد وتشتري ثم تُؤجّل وتُعيد الجدولة، في غياب رؤية واضحة لإدارة الاحتياجات.

العقود تتيح التأجيل، لكن ذلك لا يعفي الحكومة من السؤال: لماذا التعاقد الفوري المكثّف إذا لم تكن الحاجة مُلحّة؟ ولماذا لا يتم ربط الاستيراد بخطط إنتاج دقيقة بدلاً من الغرق في ديون ومخزون غير مستخدم؟
 

استهلاك الكهرباء ينخفض.. لكن الإنفاق يرتفع
برغم انخفاض استهلاك الكهرباء إلى 3.5 مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز مقارنة بـ4.5 مليار في الصيف، لم تنخفض الكميات المستوردة بنفس النسبة، ما يعني استمرار الاستيراد بلا ضبط، وإنفاق أموال طائلة على شحنات غير عاجلة.

محطات الكهرباء تستخدم كميات أقل من المازوت والغاز، لكن ذلك لا ينعكس على سياسة الشراء، ما يؤكد أن الوزارة تُدير ملفًا حساسًا بأدوات بيروقراطية عاجزة أو غير شفافة.
 

استيراد لا يقابله عدالة في التوزيع أو تخفيف العبء
في حين أن مصر تستورد الغاز بأسعار تصل إلى 14 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية، لا يظهر أثر هذه المليارات في دعم المواطن أو تحسين الخدمات. بل العكس، فالمواطن يواجه تقنين الغاز، وارتفاع أسعار الكهرباء، وانقطاعات متكررة.

الأموال تُنفق على تغويز وتسييل وتخزين الغاز، دون أي عدالة في الاستفادة. المواطن يدفع الثمن مرتين: مرة عبر الضرائب والديون، ومرة عبر الخدمات المتردية.

في النهاية فإن ملف الغاز في مصر لم يعد يحتمل المزيد من التجميل الإعلامي أو التبريرات. فالحكومة التي كانت تتباهى بالاكتفاء الذاتي باتت تعتمد كليًا على السوق الخارجية، وتُورّط البلاد في التزامات مليارية دون شفافية أو رؤية.

إن الاستمرار في هذا النهج يعني تحميل الأجيال القادمة فاتورة أخطاء اليوم. وإذا لم تُعَد هيكلة سياسات الطاقة وتُحاسب الجهات الفاشلة، فإن مصر ستظل تشتري الغاز بسعر سياسي واقتصادي باهظ، بينما يُترك المواطن يواجه شتاءً قارسًا بلا كهرباء، وصيفًا خانقًا بلا تكييف… ولكن بـ"فواتير مضاعفة".