في اعتراف غير مسبوق، وصفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية الوضع الإعلامي الدولي لإسرائيل بأنه "في أسوأ حالاته"، مشيرة إلى أن صور المجاعة في قطاع غزة، وخصوصًا صور الأطفال الذين يموتون جوعًا أو من نقص الدواء والماء، أصبحت تحاصر دولة الاحتلال أخلاقيًا وتعرّي خطابها أمام المجتمع الدولي.
في عنوانها الصادم: "صور الجوع عرّتنا أمام العالم"، أقرّت الصحيفة بأن الحرب الإعلامية على الجبهة الدولية لم تعد في صالح إسرائيل، وأن كل مزاعم "الحق في الدفاع عن النفس" انهارت تحت وطأة الجثث النحيلة، والعيون الفارغة، والأطفال الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة على مرأى من عدسات الصحافة العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
انهيار الرواية الإسرائيلية دوليًا
لطالما اعتمدت إسرائيل على خطاب إعلامي مُحكم، دعمه لوبيات قوية في أوروبا وأمريكا، وغطّته روايات سياسية عن "محاربة الإرهاب"، لكن الأمور تغيرت بصورة غير مسبوقة منذ أواخر عام 2024 مع تفاقم المجاعة والكارثة الإنسانية في غزة.
ورأت "يديعوت" أن وسائل الإعلام الغربية الرئيسية التي لطالما كانت صديقة لإسرائيل بدأت تتراجع، وتمنح مساحات أكبر لتوثيق المأساة الإنسانية في القطاع، خاصة بعد تصاعد عدد ضحايا المجاعة من الأطفال الرُضّع.
منصة "بي بي سي" البريطانية، وقناة "فرانس 24"، وصحيفة "الغارديان"، وحتى "نيويورك تايمز" الأميركية، التي كانت تتبنى الرواية الإسرائيلية غالبًا، بدأت تنشر بشكل مستمر صورًا صادمة من مستشفيات غزة، وأشرطة فيديو توثق آخر لحظات أطفال لم تصل إليهم قطرة حليب أو جرعة مضاد حيوي.
أطفال يموتون جوعًا… وصور تهزّ الضمير العالمي
من بين أكثر الصور التي أثارت موجة عالمية من الغضب، صورة لطفل يُدعى "أسيد أبو ريا"، عمره 8 أشهر، توفي في مستشفى النجار برفح بعدما لم يجد أهله حليبًا منذ أيام، بينما كان وزنه لا يتجاوز 2.3 كغ.
وفي مشفى الشفاء بمدينة غزة، رصدت فرق الأمم المتحدة وفاة 9 أطفال خلال أسبوع واحد فقط بسبب سوء التغذية الحاد، وهو ما صنفته منظمة الصحة العالمية بأنه "مجاعة قائمة فعليًا" وليست فقط "نقصًا في الغذاء".
قالت "يديعوت" في تقريرها: "الصور القادمة من غزة، لأطفال يحتضرون في حضن أمهاتهم، أصبحت أشد فتكًا من كل صواريخ حماس. لقد أفرغت العالم من تعاطفه معنا."
منصات التواصل الاجتماعي تشعل الضمير العالمي
ما زاد الطين بلة من وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية هو أن منصات التواصل كـ"تويتر/X" و"إنستغرام" و"تيك توك" أصبحت خارج السيطرة.
فمئات الملايين حول العالم باتوا يشاهدون يوميًا مشاهد لا تحتمل:
- أطفال يتقاسمون بقايا الخبز اليابس.
- أمهات يدفنّ أبناءهن الرُضّع في الرمال.
- كبار سن يبحثون في النفايات عن فتات طعام.
- صيحات جوع تُبث مباشرًا من داخل الخيام.
وحتى مشاهير عالميون، مثل بيلا حديد ومارك روفالو وروجر ووترز، بدأوا في مهاجمة إسرائيل صراحة عبر حساباتهم، بعدما تداولوا هذه الصور باعتبارها "دليلًا على التطهير الجماعي باستخدام الجوع كسلاح".
الضغط الإعلامي الدولي.. العزلة تتسع
إسرائيل، التي طالما تباهت بأنها "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، باتت اليوم تُصنف من قبل أغلب المؤسسات الإعلامية والمنظمات الحقوقية الدولية كـ"قوة محتلة تستخدم التجويع كسلاح حرب".
منظمة "أطباء بلا حدود" قالت:
"ما نشهده في غزة ليس مجرد كارثة إنسانية، بل جريمة ضد الإنسانية موثقة."
أما "هيومن رايتس ووتش"، فقد أصدرت تقريرًا من 48 صفحة تؤكد فيه أن إسرائيل تستخدم الجوع والتدمير الممنهج للبنية التحتية كسلاح عقابي جماعي ضد 2.3 مليون فلسطيني.
تدمير البنية التحتية... صانع المجاعة
منذ أكتوبر 2023، شنت إسرائيل مئات الغارات الجوية والبرية التي استهدفت:
- مزارع الأغذية، خاصة في الجنوب.
- مخازن المساعدات التي تديرها "الأونروا".
- مضخات المياه ومحطات التحلية.
- المخابز ومصانع الألبان.
- شاحنات الإغاثة عند المعابر.
والنتيجة: انهيار كامل لمنظومة الغذاء والماء.
فبحسب "الفاو" (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة)، فإن أكثر من 85% من سكان غزة لا يملكون وجبة كاملة يوميًا، فيما دخل نحو 600 ألف شخص رسميًا في مرحلة المجاعة الكاملة، خاصة في مخيمات رفح وخان يونس.
صراع داخلي في الأوساط الإسرائيلية
داخل إسرائيل نفسها، بدأ نقاش داخلي بين المسؤولين الأمنيين والصحفيين والإعلاميين حول هذه الأزمة.
ففي تقرير نشرته صحيفة "هآرتس"، قال أحد الضباط في شعبة الاستخبارات العسكرية:
"لا يمكننا قتل حماس إعلاميًا بقتل الأطفال. الرأي العام الغربي يتخلى عنا."
وأضاف آخر: "حتى مع وجود مبررات أمنية، فإن الصور التي يراها العالم تتناقض مع أي خطاب أخلاقي أو قانوني نطرحه."
"يديعوت أحرونوت" حذرت من أن هذه الانكشاف الأخلاقي الكامل قد يؤدي إلى:
- سحب دعم دول من الاتفاقيات الدفاعية.
- محاولات محاكمة جنود ومسؤولين سياسيين أمام محاكم دولية.
- انفجار الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي بشكل أعنف.
هل ستُفتح المحكمة الجنائية الدولية ملفات جرائم التجويع؟
مع تصاعد التغطية الإعلامية للصور الآتية من غزة، بدأت أصوات في الاتحاد الأوروبي تُطالب بالتحقيق في استخدام الجوع كأداة حرب.
وفي مارس 2025، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن مكتبه بدأ دراسة الأدلة الأولية حول "استخدام الحصار والتجويع من قِبل القوات الإسرائيلية كأسلوب للإخضاع العسكري والسياسي".
في الختام: صور الجوع أقوى من دبابات الاحتلال
ربما لم يكن يخطر في بال القيادات الإسرائيلية أن صورة طفل رضيع مات جوعًا قد تكون أشد تأثيرًا من خطاب رسمي، أو بيان سياسي، أو حتى من صاروخ موجّه.
لكن الحقيقة اليوم هي أن صور الجوع أصبحت تحاصر إسرائيل دوليًا أكثر مما تفعل صواريخ غزة.
لقد تحوّل الإعلام إلى ساحة المعركة المركزية، حيث لم تعد إسرائيل قادرة على السيطرة، أو حتى التبرير.
والسؤال الذي تطرحه "يديعوت أحرونوت" نفسها: "متى ندرك أن الحرب الإعلامية لم تعد معنا، وأننا نخسر كل يوم ملايين القلوب في العالم؟"
ربما الجواب كان واضحًا في أحد التعليقات الغربية التي انتشرت على نطاق واسع: "من لا يستطيع أن يُشبع طفلًا لا يحق له أن يدّعي الأخلاق."