في مشهد مؤلم بات معتادًا، شيّعت محافظة سوهاج، جنوب مصر، يوم الأحد، جثامين أربعة ضحايا، بينهم سيدة وطفل، لقوا حتفهم دهسًا تحت عجلات قطار أثناء عبورهم مزلقانًا غير شرعي بمدينة جرجا.
الحادث أعاد فتح ملف حوادث السكك الحديدية في مصر، ذلك الملف الأسود الذي لم تطوه مليارات "التطوير"، ولا التصريحات العنترية للوزير الفريق كامل الوزير.
رغم ما أعلنته الحكومة مرارًا عن إنفاق ما يزيد على 200 مليار جنيه على قطاع السكك الحديدية، لا تزال الكوارث تتكرر، والمزلقانات العشوائية منتشرة، والقطارات تفتقر لأبسط معايير الأمان، في مشهد يعكس فشلًا ذريعًا في إدارة الموارد وتحقيق الإصلاح المنشود.
تفاصيل الحادث: موت مجاني على قضبان جرجا
وقعت الحادثة صباح السبت، عندما حاولت سيدة تحمل طفلًا العبور من معبر ترابي غير قانوني، في ظل غياب أي حواجز أو إنذارات مرئية أو مسموعة. داهمها القطار القادم من أسيوط إلى القاهرة بسرعة كبيرة، فدهسها ومعها اثنين آخرين كانوا يحاولون العبور خلفها.
بحسب شهود عيان، كان المزلقان الرسمي مغلقًا للصيانة، ما دفع الأهالي لاستخدام المعبر غير الشرعي المعتاد، في غياب أي إشراف من مسؤولي السكك الحديدية أو المحليات.
صرخ أحد الأهالي خلال الجنازة: "بنموت كل يوم ومحدش سائل.. كام مليارات صرفتوها؟! والموت لسة واقف ع المزلقان".
أرقام مرعبة: قطارات مصر تحصد الأرواح بالجملة
بحسب تقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء:
أكثر من 1200 حادث قطار تم تسجيلها خلال عام واحد فقط (2022).
مصر تحتل المرتبة الأولى عربيًا وإفريقيًا في عدد حوادث القطارات.
أغلب الحوادث تقع في الوجه القبلي، حيث تفتقر القطارات إلى أي أنظمة تحكم ذكية.
والأخطر، أن معظم الضحايا من النساء والأطفال وكبار السن، وهم أكثر الفئات اضطرارًا لاستخدام القطارات الرخيصة والمرهقة.
كامل الوزير.. مليارات تُهدر دون أثر على الأرض
منذ توليه حقيبة النقل في 2019 بعد كارثة محطة رمسيس، وعد كامل الوزير بـ"نقلة نوعية" في السكك الحديدية. لكنه اختار التركيز على:
شراء قطارات روسية جديدة بتكلفة مليارات (رغم مشاكل التكييف وضعف الأمان فيها).
مشاريع قطارات كهربائية فاخرة تخدم العاصمة الإدارية الجديدة والمناطق النخبوية.
رفع أسعار تذاكر القطارات على المواطنين بحجة التطوير.
لكن على أرض الواقع:
لا تزال آلاف المزلقانات غير آمنة.
محطات الصعيد في حالة متهالكة.
عدم وجود كاميرات مراقبة أو إشارات أوتوماتيكية في الكثير من الخطوط.
المئات من سائقي القطارات والمراقبين يفتقرون للتدريب التكنولوجي الحديث.
أين ذهبت أموال التطوير؟
رغم إعلان الوزير عن تخصيص أكثر من 200 مليار جنيه لتطوير السكك الحديدية، لم ينعكس هذا الرقم الضخم على:
إحلال الخطوط القديمة.
صيانة عربات نقل الركاب المتهالكة.
أتمتة إشارات المرور أو تحسين أنظمة الفرملة والتحكم.
بدلًا من ذلك، تم ضخ الجزء الأكبر في مشاريع القطار الكهربائي الخفيف والمونوريل، التي لا تخدم سوى شريحة محدودة من الموظفين في المدن الجديدة.
في المقابل، تُركت خطوط الصعيد والوجه البحري تواجه القدر وحدها، وسط تجاهل مزمن للبنية التحتية والكوادر البشرية العاملة.
تحذيرات سابقة.. لم يُصغَ لها
كان الجهاز المركزي للمحاسبات قد نشر تقريرًا في 2021 أكد فيه أن:
60% من المزلقانات في مصر غير مؤمّنة بالشكل الكافي.
نصف حوادث القطارات تقع بسبب الإهمال في صيانة الإشارات أو عدم إغلاق المعابر.
هيئة السكك الحديدية تعاني من عجز في الموارد البشرية والتدريب.
حتى بعد كارثة قطاري سوهاج الشهيرة في 2021، التي راح ضحيتها أكثر من 30 مواطنًا، لم تحدث طفرة نوعية في إجراءات الأمان، بل تُركت الأمور لتهدأ إعلاميًا ثم عادت حوادث الدهس والانقلاب والاصطدام.
الضحايا لا يتغيرون.. فقراء بلا صوت
القطارات التي تحصد الأرواح في مصر لا تمر بحي الزمالك أو العاصمة الإدارية أو العلمين الجديدة. إنها تمر في:
جرجا، دشنا، البداري، أبو تشت، طهطا، المنيا...
أما الضحايا، فهم عمال، سيدات، أطفال في طريقهم للمدارس، مرضى ذاهبون للعلاج.
في كل جنازة، يتكرر نفس السؤال: لماذا لم تتأمن المزلقانات؟ لماذا لا يوجد إنذار أو حاجز؟ أين ذهبت المليارات؟
لكن الإجابة دائمًا صمت رسمي، وتصريحات جوفاء من المسؤولين.
من المسؤول؟
وزير النقل كامل الوزير: الذي يحمّل المسؤولية دومًا للمواطنين "اللي بيعدوا من أماكن غلط"، رغم أن الأمن والسلامة مسؤولية الوزارة.
هيئة السكك الحديدية: التي تعاني من فساد إداري، وتضارب صلاحيات، وضعف رقابة.
الحكومة المصرية: التي تتفاخر بـ"أرقام تطوير" لا يشعر بها أحد في الشارع.
قطارات تقتل، ودولة لا تعترف بالفشل
من جرجا إلى طوخ، ومن طهطا إلى حلوان، يتكرر نفس المشهد: موت مجاني، دموع، صمت رسمي، وعد بالتطوير، ثم نسيان.. وهكذا تدور عجلة الدم.
في دولة تُهدر المليارات على قطارات كهربائية فاخرة تخدم الصفوة، وتترك سكان الصعيد يموتون على مزلقانات ترابية، لا يمكن الحديث عن تطوير حقيقي، بل عن تجميل إعلامي يُخفي تحت سطوره الفشل والتقصير.
والسؤال الآن: من الضحية القادمة؟ ومتى يتحول "التطوير" إلى واقع لا دعاية؟ وهل ستتحرك العدالة لمحاسبة المسؤولين، أم سيُحمّل طفل آخر مسؤولية "عدم الالتزام بقواعد المرور"؟