في مشهد يلخص البيروقراطية الحكومية والتخبط الإداري في ملف الإسكان الاجتماعي بمصر، تعيش أكثر من 13 ألف أسرة من أبناء محافظة كفر الشيخ أوضاعًا معيشية قاسية، بعد أن طال انتظارهم لشقق "الحلم" التي وعدتهم بها وزارة الإسكان في إطار مشروع الإسكان الاجتماعي.

سنوات من الوعود، الأقساط، الأوراق، والانتظار المرير، ثم لا شيء سوى صمت مريب، وتأجيل متكرر، وشقق "جاهزة على الورق فقط"، دون أدنى مسؤولية أو محاسبة.

 

من البداية: وعد السكن للفقراء

تعود جذور الأزمة إلى عام 2017 – 2018، حين أعلنت وزارة الإسكان فتح باب الحجز لمشروعات الإسكان الاجتماعي في كفر الشيخ، ضمن مبادرة "سكن لكل المصريين"، في مواقع متعددة مثل:

بيلا
الحامول
دسوق
قلين
الرياض
بلطيم
تقدم آلاف المواطنين من محدودي الدخل، مستوفين شروط الدعم. دفعوا مقدمات الحجز، واستوفوا الأقساط، وتقدموا بأوراقهم حسب التعليمات، مع وعود بتسليم الوحدات خلال 3 سنوات بحد أقصى.

لكن منذ ذلك الحين، دخل الملف في نفق التأجيل والتسويف.

 

تسلسل الأزمة: وعود تنهار عامًا بعد عام

2018 – 2019: الإعلان عن القبول المبدئي لمقدمي الحجز، وسط إشادة إعلامية بـ"إنجاز الدولة في ملف الإسكان".
2020: بدء تنفيذ الأعمال الإنشائية لبعض المواقع، في ظل تأخير لمشروعات أخرى بحجة "المراجعات الفنية" أو "تعديل الرسومات".
2021 – 2022: الانتهاء من جزء من الأعمال الإنشائية في بعض المدن مثل بيلا والحامول، لكن دون تسليم فعلي للمواطنين، بينما أُجبر الحاجزون على دفع أقساط إضافية ورسوم صيانة وتأمين.
2023 – 2024: تصاعد الغضب بين المواطنين بسبب استمرار التأخير، مع ظهور تقارير عن سوء تنفيذ بعض الوحدات، أو عدم اكتمال المرافق والخدمات.
منتصف 2025: عشرات الوقفات الاحتجاجية السلمية أمام مقار مجلس المدينة أو مديرية الإسكان، دون استجابة جادة من المسؤولين.

 

أين ذهبت أموال الحاجزين؟

العديد من الأسر دفعوا ما بين 15 إلى 50 ألف جنيه كمقدمات، وأقساط شهرية منتظمة منذ سنوات. وفي كثير من الحالات:

لا توجد عقود واضحة تضمن حق الحاجزين في التعويض أو الفوائد.
تُفرض رسوم إضافية تحت مسميات متعددة مثل "مصاريف استكمال" أو "زيادة تكلفة".
لا يوجد جدول زمني معلن أو شفاف للتسليم.
ما يعني أن أكثر من مليار جنيه أموال محجوزة دون مقابل عيني، ولا رقابة فعالة عليها.

 

شهادات من الواقع: "حياتنا واقفة"

يقول أحد المتقدمين من مركز الحامول : أنا دافع مقدم الشقة من 6 سنين، ومفيش شقة ولا حتى رد رسمي، وكل ما أروح يسكتونا بحجة (الشبكات لسه متعملتش). إحنا اتخدعنا".

ويضيف مواطن آخر من بلطيم: "أنا متجوز من 4 سنين وبستأجر شقة بفلوس مرتين! بقالي 5 سنين بدفع أقساط ومالقيتش مفتاح الشقة ولا حتى زيارة ميدانية من أي مسؤول".

 

أسباب التأخير كما يبررها المسؤولون

في تصريحات متفرقة للمسؤولين بوزارة الإسكان ومحافظة كفر الشيخ، برروا التأخير بالأسباب التالية:

1.     تأخر توصيل المرافق (مياه، كهرباء، صرف صحي).

2.     تعديلات على التصميمات بسبب طبيعة التربة في بعض المناطق.

3.     نقص الاعتمادات المالية بسبب التضخم وتذبذب الأسعار.

4.     انتظار دعم إضافي من صندوق الإسكان الاجتماعي.

لكن هذه المبررات لم تعد تقنع المواطنين، خاصة أن كثيرًا من المواقع تم الانتهاء من إنشائها فعليًا منذ أكثر من عامين، لكن لا تزال مغلقة في وجه الحاجزين.

منظور حقوقي: مخالفة صريحة للعقد الاجتماعي

يرى نشطاء حقوق السكن أن ما يحدث يمثل إخلالًا واضحًا بعقود مبرمة مع الدولة، وانتهاكًا لحق أساسي من حقوق الإنسان.

يقول أحد الحقوقيين: "عندما تسحب الحكومة أموال الفقراء مقابل وعد بالسكن ثم تُماطل، فهذا لا يختلف كثيرًا عن النصب المنظم. أين البرلمان؟ أين الرقابة؟"

وطالب عدد من المحامين بتحرك جماعي لرفع دعاوى تعويض ضد وزارة الإسكان وصندوق الإسكان الاجتماعي بسبب الإضرار بمصالح المواطنين وتعطيل حياتهم.

الأثر الاجتماعي: تأجيل الزواج، وديون، وانهيار ثقة

تسببت الأزمة في أضرار ضخمة، منها:

تعطيل حياة آلاف الأسر الشابة التي كانت تنتظر الاستقرار لبناء عائلة.
زيادة الأعباء المالية بسبب الإيجارات المتراكمة، مع فقدان المقدمات التي دفعوها.
انتشار الإحباط واليأس من المؤسسات الرسمية.
فقدان الثقة في مشروعات الدولة التي تسوّق إعلاميًا بشكل مكثف، بينما الواقع يعج بالإخفاقات.
السياسة والإسكان.. وعود انتخابية لم تُنفّذ

الملف أيضًا يحمل بعدًا سياسيًا. فمع كل استحقاق انتخابي، تتعهد الدولة بتسليم الوحدات المتأخرة، وتعلن عن "الانتهاء بنسبة 95%"، لكن ما إن تنتهي الانتخابات حتى يعود الصمت، وكأن الإسكان مجرد أداة للدعاية السياسية لا أكثر.

ماذا يجب أن يحدث الآن؟

لإنهاء هذه الأزمة، هناك عدد من الخطوات العاجلة التي يجب اتخاذها:

1.     إعلان جدول زمني رسمي ومُلزم للتسليم مع توقيتات واضحة.

2.     فتح تحقيق رقابي من الجهاز المركزي للمحاسبات حول مصير الأموال.

3.     تعويض المتضررين عن سنوات التأخير بفوائد أو إعفاءات مالية.

4.     مساءلة الجهات المحلية ومديريات الإسكان عن التقصير الإداري.

5.     تفعيل دور البرلمان والنيابة الإدارية لمحاسبة المقصرين.

 

الإسكان ليس رفاهية.. إنه حياة

إن قصة 13 ألف أسرة في كفر الشيخ ليست مجرد قضية إسكان، بل مرآة لعلاقة المواطن البسيط بدولته.
حين يخون النظام وعوده للفقراء، ويتركهم سنوات في الانتظار، دون رد أو حل، فهذه ليست أزمة إسكان فقط، بل أزمة عدالة، وإدارة، وضمير.

في بلد يعيش أكثر من نصف شعبه تحت خط الفقر، يصبح تأخير شقة سكنية لعائلة فقيرة جريمة مكتملة الأركان.