في تصريحات رسمية صادمة، قال وزير الموارد المائية والري المصري هاني سويلم في مقابلة متلفزة إن مصر ستدخل مرحلة "الشح المائي القاسي" خلال السنوات المقبلة، مرجعًا ذلك إلى عاملين رئيسيين: الزيادة السكانية من جهة، وضعف الموارد المائية من جهة أخرى. هذه التصريحات، التي نُظر إليها على أنها تحذير مبكر من كارثة قادمة، أعادت إلى الواجهة ملفًا بالغ الحساسية طالما حذّر منه الخبراء، وهو ملف الأمن المائي المصري، الذي بات مهددًا أكثر من أي وقت مضى.

وإذا كان الضغط السكاني عاملًا مفروغًا منه في بلد يقترب سكانه من 106 ملايين نسمة، فإن العامل الأخطر الذي تجاهل الوزير الخوض في عمقه هو السياسات الحكومية التي ساهمت في تضييع حقوق مصر المائية، خصوصًا في ملف سد النهضة. فقد اتهم كثير من الخبراء والرأي العام السلطات، وعلى رأسها قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، بالتفريط في الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، عبر سلسلة من المواقف والقرارات الضعيفة التي مكنت إثيوبيا من فرض الأمر الواقع.

 

أزمة متصاعدة: شح مائي يهدد الحياة

مصر تعتمد في أكثر من 95% من احتياجاتها المائية على نهر النيل، وتحديدًا الفرع القادم من الهضبة الإثيوبية (عبر النيل الأزرق). في المقابل، مواردها المائية الأخرى محدودة جدًا، سواء من الأمطار الموسمية أو المياه الجوفية القابلة للتجديد.

وفقًا لتقارير وزارة الري نفسها، فإن حصة مصر المائية التاريخية المقدرة بـ 55.5 مليار متر مكعب سنويًا لم تعد كافية حتى لتلبية الحد الأدنى من الاستخدامات الزراعية والصناعية والمنزلية. ومع تزايد السكان، تشير التقديرات إلى أن نصيب الفرد من المياه في مصر انخفض من 1200 متر مكعب سنويًا في الثمانينات إلى أقل من 570 متر مكعب حاليًا، وهو ما يضع البلاد تحت خط الفقر المائي (1000 متر مكعب)، بل على أعتاب الشُح القاسي، الذي يبدأ عند أقل من 500 متر مكعب للفرد سنويًا.

 

تحذيرات الخبراء: عباس شراقي يدق ناقوس الخطر

من أبرز الأصوات العلمية التي دأبت على تحذير الدولة من عواقب ما يجري في ملف المياه هو الدكتور عباس شراقي، أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة. على مدى سنوات، وجّه شراقي تحذيرات علنية حول خطر سد النهضة الإثيوبي على حصة مصر المائية، محذرًا من أن المضي قدمًا في ملء السد دون اتفاق ملزم سيؤدي إلى تداعيات كارثية على الزراعة، المياه الجوفية، والاستقرار البيئي والاجتماعي.

في تصريحات متكررة، حذر شراقي من أن الحكومة المصرية ارتكبت أخطاء استراتيجية فادحة في إدارتها لهذا الملف، بدءًا من القبول بالمشاركة في مفاوضات دون شروط، ومرورًا بالتوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015، الذي وصفه بأنه منح إثيوبيا شرعية بناء السد دون التزامات.

وقد قال شراقي في أكثر من مناسبة إن "الخطأ الأكبر هو اعتراف مصر بالسد دون ضمان حقوقها المائية"، مؤكدًا أن الملء الأحادي للسد، والذي تم بالفعل على مدار 4 مراحل، هو انتهاك واضح للقانون الدولي، وسلوك عدواني يتطلب ردًا حازمًا، لا سياسة التهدئة والصمت.

 

كيف فرّط  السيسي في حقوق مصر المائية؟

يرى الكثير من المحللين أن عبد الفتاح السيسي يتحمل مسؤولية مباشرة في ما آلت إليه الأوضاع المائية، خصوصًا منذ توقيعه في مارس 2015 على اتفاق إعلان المبادئ مع إثيوبيا والسودان. هذا الاتفاق، الذي وصفه مراقبون بـ"الكارثي"، اعتُبر بمثابة اعتراف قانوني مصري بحق إثيوبيا في بناء السد، دون ربط ذلك بأي ضمانات ملزمة حول حجم التخزين أو أسلوب التشغيل.

رغم تحذيرات الخبراء من مخاطر هذا الاتفاق، دافعت الحكومة عنه آنذاك باعتباره "خطوة لبناء الثقة"، غير أن ما تلا ذلك من مماطلة إثيوبية وتوسع أحادي في ملء وتشغيل السد كشف زيف هذه الادعاءات. فعلى مدى سنوات، استمرت أديس أبابا في تنفيذ مراحل ملء السد، دون اكتراث للتحفظات المصرية أو دعوات المجتمع الدولي لتوقيع اتفاق قانوني ملزم.

وقد وصلت الأمور إلى ذروتها في عام 2021 عندما قال السيسي في تصريح علني:

"لن نُفرّط في قطرة مياه من حقنا، واللي يقرب منها هتبقى نهايته"...
لكن هذه الكلمات لم تُترجم إلى أي موقف عملي، بل مضت إثيوبيا في ملء السد للمرة الثانية والثالثة، دون أي رد حاسم من القاهرة.

بل إن السيسي نفسه كان قد قال في مقابلة سابقة:

"أنا وقعت على اتفاقية السد، ما تضيعوش وقتكم معايا"، في اعتراف ضمني بمسؤوليته عن هذا المسار.

 

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة

ما ينتظر مصر ليس فقط انخفاضًا في منسوب المياه، بل أزمة معيشية شاملة، تشمل:

نقص الإنتاج الزراعي نتيجة تقليص المساحات المزروعة.
ارتفاع أسعار الغذاء بسبب الاعتماد المتزايد على الاستيراد.
أزمة بطالة بين الملايين من العاملين في الزراعة.
هجرة داخلية من الريف إلى المدن بسبب ندرة المياه.
توترات اجتماعية في المناطق التي تعتمد على الزراعة التقليدية أو النيل كمصدر رئيسي للمياه.
وفي هذا السياق، لا يبدو أن مشاريع مثل محطة معالجة مياه بحر البقر أو محطات التحلية في الساحل الشمالي تكفي لتعويض الفاقد الاستراتيجي، خصوصًا مع استنزاف المياه الجوفية، وتراجع مناسيب البحيرات.

 

المجتمع الدولي والخذلان الدبلوماسي

اعتمدت الدولة المصرية على مسار التفاوض طويل الأمد، بما يشمل وساطة الاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة، ثم مجلس الأمن الدولي، لكن دون نتائج ملموسة. فشل هذه المسارات كشف ضعف الأداء الدبلوماسي المصري، وفقدان أوراق الضغط التي كانت تملكها مصر سابقًا.

بل إن القاهرة وجدت نفسها معزولة نسبيًا في مواجهة إثيوبيا، التي لم تكتفِ بالرفض، بل استخدمت خطابًا استفزازيًا، مع إعلان رسمي بأن السد "مسألة سيادة"، رغم ما يمثله من خطر وجودي على دولتي المصب: مصر والسودان.

 

ماذا بعد؟

تصريحات وزير الري هاني سويلم الأخيرة بمثابة إعلان رسمي بأن مصر فقدت السيطرة على ملف المياه، وأن القادم قد يكون أسوأ. ومع غياب الشفافية، وعدم وجود خطة وطنية واضحة لمواجهة الشُح المائي القادم، فإن مصر مهددة بأزمة بيئية ومعيشية عميقة.

يحتاج الأمر إلى مراجعة جذرية للسياسات المائية، وإعادة تقييم الاتفاقات الموقعة، وربما حتى اللجوء القانوني إلى محكمة العدل الدولية أو التحكيم الدولي، فضلًا عن تحرك دبلوماسي جاد لشرح القضية عالميًا.

لكن الأهم من ذلك كله، أن القيادة السياسية يجب أن تتحمل المسؤولية، وتصارح الشعب بالحقائق، وتكف عن سياسة التبرير والمماطلة التي أوصلت البلاد إلى هذا المنعطف الخطير.