في سياق بالغ التعقيد تشهده الساحة الفلسطينية، لا سيما مع استمرار العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، برز تحول لافت في موقف الولايات المتحدة الأميركية، تمثل في تقليص انخراطها في الضغط على إسرائيل من أجل وقف الحرب، مقابل التركيز على مطلب استسلام حركة حماس، ورفض الانخراط في مفاوضات تؤدي إلى صفقة تبادل أسرى أو تهدئة مؤقتة. هذا التحول، الذي كشف عنه مسؤول مصري مشارك في جهود الوساطة، يعكس تغيّرات عميقة في المشهد السياسي، ويؤشر إلى إعادة تموضع إقليمي ودولي في التعاطي مع الصراع، وسط تراجع واضح لدور الوسطاء العرب، وخصوصًا مصر وقطر.

 التحول في الموقف الأميركي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج لعدة عوامل متراكمة، من بينها تآكل النفوذ العربي في معادلة الوساطة، والتباين في الحسابات الإسرائيلية الأميركية، إضافة إلى إخفاق المساعي السياسية السابقة في تحقيق تهدئة مستدامة. ومع تصاعد التوترات، بات واضحًا أن واشنطن أعادت ترتيب أولوياتها، وباتت ترى أن الضغط على حماس – وليس على إسرائيل – هو الطريق الأقرب لتحقيق ما تعتبره "نهاية للحرب".

 وقد تبيّن أن الموقف الأميركي الجديد يتجه نحو معادلة صفرية تقوم على الإخضاع الكامل لحركة حماس، مقابل منح إسرائيل هامشًا أوسع للمناورة العسكرية والسياسية. في المقابل، فإن هذا الانحياز الواضح عمّق من أزمة الثقة بين حماس وواشنطن، كما قوّض أي أفق فعلي لحلول تفاوضية تراعي متطلبات التهدئة والحفاظ على الحد الأدنى من التوازن بين الطرفين.

 التراجع العربي في هذا السياق لم يكن أقل أهمية. فقد أظهر الوسطاء العرب، وعلى رأسهم مصر وقطر، ضعفًا غير مسبوق في التأثير على مجريات الأمور. إذ فشلت الوساطات المتكررة في دفع الطرفين إلى تسوية مقبولة، وبات دور هؤلاء الوسطاء أقرب إلى تمرير شروط القوى الكبرى، لا سيما أميركا وإسرائيل، بدلًا من لعب دور الضامن أو الموازن. كما ساهم هذا الضعف في منح إسرائيل مساحة أكبر للتصلب السياسي والميداني، مدفوعة بدعم أميركي مطلق، وموقف دولي متردد، ومجتمع عربي مشغول بأزماته الداخلية.

 اللافت أن هذا التحول الأميركي لم يُقابل بارتياح على الجانب الفلسطيني، بل زاد من تعقيد الأمور، حيث رفضت حركة حماس ما وصفته بـ"فرض شروط الاستسلام"، مؤكدة على أن "المقاومة وسلاحها استحقاق وطني وقانوني ما دام الاحتلال قائمًا". هذا الرد يوضح أن الحركة لا تزال متمسكة بخيار المواجهة، وترى في الحفاظ على سلاحها جوهرًا لوجودها السياسي والعسكري. كما أنه يضع خطوطًا حمراء لأي عملية تفاوض مستقبلية، وهو ما ينسف عمليًا الرؤية الأميركية التي تسعى إلى نزع السلاح مقابل تهدئة.

 ويكشف رد حماس أيضًا عن إدراكها العميق لمعادلة التوازنات التي تحكم الصراع، إذ تدرك أن القبول بشروط منقوصة سيؤدي إلى تهميشها سياسيًا وربما وجوديًا. ولذلك، فإن تمسكها بالمقاومة يُفهم في إطار حماية الذات التنظيمية، ولكنه أيضًا يحمل أبعادًا أوسع تتعلق بالتمثيل الوطني والقانوني للشعب الفلسطيني، خاصة في ظل غياب بدائل موثوقة، وتآكل مؤسسات السلطة، وانسداد الأفق السياسي منذ سنوات.

 على الجانب الإسرائيلي، فإن الموقف الأميركي الجديد يمنح الحكومة في تل أبيب دفعة قوية لمواصلة استراتيجيتها العسكرية دون ضغوط حقيقية لوقف النار. وقد ظهرت مؤشرات ذلك في التصريحات الإسرائيلية المتكررة الرافضة لأي وقف مشروط للعمليات العسكرية، والتي ترى في الحرب الحالية فرصة نادرة لتفكيك بنية حماس وضرب قدراتها. وتستفيد إسرائيل من الغطاء السياسي الأميركي في المحافل الدولية، وكذلك من ضعف التحركات الدبلوماسية الأوروبية والعربية، ما يجعلها في موقع المتحكم شبه الكامل بسيناريوهات المرحلة القادمة.

 ولا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. فالتقارب الإسرائيلي الأميركي في هذه المرحلة يعكس تقاطع مصالح يتعلق بتصفية القوى "غير المرغوب فيها" في المنطقة، ضمن استراتيجية أوسع لإعادة رسم خارطة النفوذ في الشرق الأوسط. في المقابل، تعاني الدول العربية، خصوصًا تلك التي سبق وأن لعبت أدوارًا محورية في الوساطة، من تراجع تأثيرها، إما بسبب الأزمات الداخلية، أو نتيجة التباين في الرؤى حول التعاطي مع حماس، أو بسبب الضغوط الأميركية المباشرة.

 هذا المشهد يعيد طرح سؤال جوهري حول مستقبل الوساطة العربية ودورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فإذا كانت الدول العربية غير قادرة على التأثير على مواقف الولايات المتحدة أو إسرائيل، ولا تمتلك أدوات ضغط على حماس، فإن وظيفتها كوسيط تصبح محل تساؤل حقيقي. كما أن استمرار هذا العجز سيؤدي إلى فراغ دبلوماسي قد تملؤه أطراف أخرى، سواء كانت إقليمية كتركيا وإيران، أو دولية مثل روسيا والصين، التي بدأت تُبدي اهتمامًا متزايدًا بالقضية الفلسطينية.

من جهة أخرى، فإن الرهان الأميركي على فرض الاستسلام على حماس قد ينقلب إلى عامل تأزيم بدلًا من الحل. إذ أن تعنت الموقف الأميركي الإسرائيلي قد يدفع الحركة إلى تصعيد ميداني أكبر، أو إعادة تموضع ضمن تحالفات إقليمية جديدة تعيد خلط الأوراق. كما أن تعمّق المأساة الإنسانية في غزة، وغياب الأفق السياسي، سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان الشعبي، وربما إلى تفجير موجات غضب إقليمي يصعب التحكم بها.

 في هذا السياق، تصبح الحاجة إلى إعادة تقييم الاستراتيجية العربية والدولية تجاه القضية الفلسطينية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. فلا يمكن استمرار الرهان على الحلول العسكرية أو على فرض الإملاءات السياسية. كما لا يمكن تجاوز الأطراف الفلسطينية الرئيسية في أي تسوية قادمة. ومن دون ضغط حقيقي ومتوازن على جميع الأطراف، ومن دون وساطة نزيهة وفاعلة، ستظل الأزمة مفتوحة على احتمالات خطيرة، تتجاوز غزة إلى المنطقة بأسرها.

 وأخيرا، فإن التحول في الموقف الأميركي من الضغط على إسرائيل إلى الضغط على حماس، وسط ضعف الوسطاء العرب، يعكس تغيرًا جذريًا في منطق إدارة الصراع، ويدفع باتجاه سيناريوهات أكثر حدة وتعقيدًا. وفي ظل تمسك حماس بخياراتها، ورفضها القاطع للاستسلام أو نزع السلاح، يبدو أن المشهد يتجه نحو مزيد من الاستنزاف، سواء على المستوى الإنساني أو السياسي. ويبقى الأمل معقودًا على ولادة مقاربة جديدة، تنبني على العدالة والندية، وتعيد الاعتبار للحقوق الوطنية الفلسطينية، بعيدًا عن منطق القوة والغلبة الذي أثبت فشله مرارًا.