في مشهد غير مسبوق منذ توقيع اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم "اتفاقيات أبراهام"، أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي إجلاء بعثتها الدبلوماسية من العاصمة الإماراتية أبوظبي، مع توجيه تحذير رسمي للمستوطنين بعدم السفر إلى الإمارات بسبب "مخاوف أمنية"، وذلك في أعقاب فضيحة أخلاقية ودبلوماسية مدوّية بطلها السفير الإسرائيلي في الإمارات يوسي شيلي.

ورغم هذا الإجراء الصادم، جاء الرد الإماراتي الرسمي باهتًا، هزيلًا، ومثيرًا للتساؤلات، حيث اكتفى الجانب الإماراتي بما وصف بـ"الانزعاج" من سلوك السفير، دون اتخاذ أي خطوات حقيقية كطرده أو إعلان أنه غير مرغوب فيه، وهو ما كشف مرة أخرى عن حالة من الخضوع السياسي أمام الاحتلال، والحرص المفرط على استرضاء تل أبيب بأي ثمن.

 

إخلاء البعثة وتحذير المواطنين

في أعقاب تصاعد التوتر، أصدر المجلس القومي للأمن الإسرائيلي في نهاية يوليو توصية بإخلاء معظم الدبلوماسيين وأسر العاملين في سفارة تل أبيب بأبوظبي وقنصليتها في دبي، وسط "مخاطر أمنية وتهديدات إرهابية محتملة".

السلطات الإسرائيلية حذّرت رعاياها من السفر "غير الضروري" إلى الإمارات، مشيرة إلى احتمال استهدافهم من عناصر إيران أو حماس أو حزب الله خصوصًا خلال فترة الأعياد اليهودية أو عطلة نهاية الأسبوع
رغم التحذيرات، أكدت الخارجية الإسرائيلية أن البعثات الدبلوماسية (السفارة في أبوظبي والقنصلية في دبي) ستبقى مفتوحة، وأن القيادة الإسرائيلية لم تتحدث رسميًا عن استدعاء السفير شيلي أو استبعاده من منصبه حتى الآن

 

غضب شعبي.. وصمت رسمي

الشارع الإماراتي، رغم ما يتعرض له من تضييق على التعبير، لم يصمت إزاء هذه الفضيحة. فقد امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بموجة غضب وسخرية واحتجاج من صمت الحكومة على سلوك مهين من ممثل كيان محتل، طالما قدم نفسه كشريك "سلام"!

ولعل الأدهى، أن كثيرًا من الإماراتيين والعرب عبّروا عن استيائهم ليس فقط من الفضيحة نفسها، بل من حرص الحكومة على حماية العلاقات مع الاحتلال حتى ولو على حساب الكرامة الوطنية، والسيادة الدبلوماسية. في المقابل، التزمت السلطات الرسمية الصمت، ما عزّز الانطباع أن الدولة باتت ترهن كرامتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية لإرضاء تل أبيب.

 

السفير الفضائحي.. وليس الحادث الأول

السفير الإسرائيلي يوسي شيلي ليس شخصية دبلوماسية تقليدية. هو شخصية معروفة في الوسط الإسرائيلي بانتمائه لليمين المتطرف، وقربه من بنيامين نتنياهو. ومعروف أيضًا بتاريخه المليء بالتصرفات الغريبة وغير الدبلوماسية.

الحادث الأخير، بحسب وسائل الإعلام العبرية، تضمن سلوكًا "غير لائق" في أحد فنادق دبي الراقية، تجاوز البروتوكولات والآداب العامة، وأثار استياء مسؤولين إماراتيين حضروا المكان. كما أُبلغت الخارجية الإسرائيلية بتقارير تتحدث عن تعالي السفير على القوانين المحلية، وتعامله الفظ مع موظفين محليين.

ومع ذلك، رفضت إسرائيل محاسبته، بل أبقت عليه في منصبه وأعادت إرسال بعثتها لأبوظبي بعد التهدئة، فيما اكتفت الإمارات بالتغاضي، ما يُظهر أن "التطبيع بالنسبة لها لا رجعة فيه، حتى لو كان الثمن هو الإهانة المتكررة".

 

التطبيع أهم من السيادة؟!

منذ توقيع اتفاقيات أبراهام، تحوّلت الإمارات إلى الدولة الأكثر اندفاعًا في بناء علاقات مفتوحة مع الكيان الصهيوني، اقتصاديًا وأمنيًا وسياحيًا. ومنذ ذلك الحين، تم افتتاح سفارات، توقيع اتفاقات تجارية، والتنسيق العسكري على قدم وساق.

لكن ما لم تفهمه أبوظبي – أو تجاهلته – هو أن إسرائيل لا تقيم وزنًا لهذه العلاقات طالما أنها لا تخدم مصالحها المباشرة. فعندما تورط السفير في الفضيحة، لم تتردد تل أبيب في إخلاء بعثتها بالكامل وتحذير مواطنيها من السفر، وكأنها تتحدث عن دولة غير آمنة أو معادية.

ورغم الإهانة الواضحة، فإن الإمارات:

لم تستدعِ السفير رسميًا لطرده.
لم تصدر بيانًا غاضبًا.
لم تطرح حتى على الإعلام المحلي تفاصيل الفضيحة، وكأنها لا تعني السيادة الوطنية.

 

الإمارات تحرس التطبيع... وتغض الطرف عن الإهانات

بدلًا من اتخاذ موقف وطني، بدا أن أولويات الحكومة الإماراتية تتركز في حماية مسار التطبيع بأي ثمن. حتى الفضيحة التي أقرّ بها الإعلام العبري، تم التستر عليها في الإعلام الرسمي المحلي، رغم معرفة الرأي العام بتفاصيلها عبر وسائل التواصل.

ففي حين أن الدول عادةً تطرد السفراء عند أدنى خرق للبروتوكول أو المساس بسيادتها، اختارت الإمارات التراخي، في مشهد يُعيد إلى الأذهان حالة الدول التابعة لا المستقلة.

وهنا يُطرح السؤال الأكبر: هل باتت أبوظبي رهينة للابتزاز الإسرائيلي؟ وهل أصبح الحفاظ على علاقات "السلام" أهم من الكرامة الوطنية واحترام الذات؟

 

إسرائيل لا تحترم شركاءها

السلوك الإسرائيلي يُثبت مرارًا أنه لا يقدّر حلفاءه، ولا يعترف إلا بلغة القوة والمصالح الصريحة. فالكيان المحتل:

يواصل جرائمه في غزة والضفة أمام صمت حلفائه العرب.
لا يتوانى عن إهانة من يطبّع معه.
يواصل اعتقال الفلسطينيين دون محاكمة، ويهاجم المصلين في الأقصى دون اكتراث بردود الفعل.
ومع ذلك، تصرّ بعض الأنظمة، وعلى رأسها الإمارات، على الدفاع عن هذا الكيان، والتغاضي عن كل ما يصدر عنه، وكأنها تسعى لنيل الرضا الإسرائيلي لا أكثر.

 

فضيحة كشفت الحقيقة

حادثة السفير الإسرائيلي الأخيرة في الإمارات لم تكن مجرد تجاوز دبلوماسي، بل كشفت هشاشة الموقف الإماراتي، وافتقار السياسات الرسمية للكرامة والسيادة أمام الكيان الصهيوني.

وفي حين يطالب الإماراتيون بإجراءات تحفظ ماء وجه الدولة، تصرّ القيادة على تجاهل مطالبهم، ما يعزز قناعة الكثيرين أن مسار التطبيع لم يجلب سوى الإهانة والتبعية، وأن استمراره لن يزيد الإمارات إلا ذُلًا في نظر حلفائها قبل خصومها.

 

إلى متى يستمر هذا الخنوع؟

فضيحة كهذه كانت لتُشعل أزمة سياسية كبرى بين أي بلدين محترمين. لكن في الحالة الإماراتية، كل شيء يمر مرور الكرام، لأن السلطة قررت منذ 2020 أن تربط مستقبل البلاد بمصير العلاقة مع الاحتلال.

لكن إلى متى يمكن الصمت على الإهانات؟ وإلى متى تبقى السيادة الوطنية في المرتبة الثانية أمام "شراكة" لا تحترمها تل أبيب أصلًا؟
أسئلة يطرحها اليوم كل من تابع الفضيحة، ويشهد بأم عينيه كيف أصبحت التفاهة والضعف عنوان العلاقة بين أبوظبي وتل أبيب.