في واقعة أثارت الكثير من الجدل والغضب في الشارع السوهاجي، أمر محافظ سوهاج بحكومة السيسي "طارق الفقي" في الساعات الأولى من شهر أغسطس 2025 بتشميع عدد من المحلات التجارية في حي شرق المحافظة، على خلفية مشاجرة وقعت بين بعض العاملين داخل هذه المحلات بسبب خلافات على جذب الزبائن.

 

القرار، الذي صدر عقب تداول فيديوهات تُظهر حالة هرج بالمنطقة، جاء بحسب بيان المحافظة “حرصًا على الانضباط العام”، لكنّه فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات حول مدى تعسف السلطة التنفيذية في التعامل مع المواطنين والأنشطة الاقتصادية الصغيرة.

 

حيث شهد حي شرق سوهاج، تحديدًا في محيط محلات للعصائر والحلويات، مشاجرة عنيفة بعد تنافس العمال لجذب الزبائن، وتطورت الخلافات إلى اشتباك بالأيدي، ما أدى إلى حدوث حالة من الفوضى نتج عنها إصابة عدد من المواطنين وتعطيل حركة المرور، وفور انتقال السلطات المحلية، قرر المحافظ إغلاق المحلات المتورطة بالكامل، وإحالة الحادث للنيابة العامة بتهم الإضرار بالأمن العام.

 

هذا التحرك السريع والعنيف اعتُبره كثيرون أساساً لإطفاء أي تعبير عن الغضب أو الاحتقان المجتمعي الناتج عن تردي الأوضاع الاقتصادية وغياب الحلول الهيكلية، فبات من المعتاد أن تتحول أي واقعة، حتى وإن كانت عابرة، إلى ذريعة لإصدار قرارات جماعية تمس أرزاق البسطاء، وهو ما يصفه حقوقيون بأنه “قمع إداري مقنن”.

 

 

 

التشميع

 

لا يختلف اثنان أن الحفاظ على النظام العام مسؤولية الدولة، لكن استخدام أدوات قمعية كتشميع المحلات على إثر شجار فردي، دون منح أصحابها فرصة للدفاع أو معالجة الأمر إداريًا، يُظهر كيف أصبحت مؤسسات الدولة أداة في يد السلطة لقمع الناس بدلًا من خدمتهم.

 

فبحسب المحامي الحقوقي خالد علي، “القانون يعطي للسلطة المحلية صلاحيات واسعة، لكنها ليست مطلقة، ويجب أن تُستخدم بميزان العدل لا بالهوى أو لرغبة في استعراض السلطة.”

 

ويضيف: “لا توجد أي مادة في قانون الإدارة المحلية أو تنظيم المحلات تُجيز معاقبة جميع العاملين أو غلق النشاط لمجرد أن شخصين تشاجرا، خاصة أن الشجار لم يُسفر عن إصابات جسيمة أو خسائر عامة.”

 

 

 

تشميع المتاجر عقوبة للفقراء

 

في ظل انهيار القوة الشرائية، وتراجع حاد في دخل المواطن، وارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع، تُعدّ المشروعات الصغيرة والمتاجر المحلية مصدر الرزق الوحيد لآلاف الأسر، لكن، كما يرى الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، فإن “الدولة لم تعد ترى المواطن كإنسان له حقوق، بل كعنصر يجب ضبطه وتحجيمه.”

 

ويؤكد فاروق: “الإغلاق التعسفي لا يؤثر فقط على العاملين بالمحل بل على سلاسل التوريد الصغيرة التي تتعامل معهم، من باعة جائلين وموزعين وغيرهم. وكل قرار إداري غير مدروس يُفاقم الأزمة الاقتصادية.”

 

في تقرير للبنك الدولي في مارس 2024، أشار إلى أن نحو 60% من العاملين في مصر ينتمون إلى القطاع غير الرسمي أو المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ويضيف التقرير أن “أي قمع تنظيمي أو تعقيدات إدارية تؤدي إلى تضييق مساحة العمل الحر وزيادة نسب البطالة والفقر.”

 

 

 

الهرج العام أم فشل الإدارة؟

 

تذرعت المحافظة بأن “حالة الهرج” التي سبّبتها المشاجرة عطّلت حركة المواطنين، لكن شهود عيان ومقاطع فيديو نُشرت على مواقع التواصل أظهرت أن الحادث لم يستغرق دقائق، وأن عناصر الشرطة احتوت الوضع سريعًا، فما الذي يبرر إغلاق محلات بالكامل بعد ذلك؟

 

يُعلّق الصحفي المحلي محمد سيد: “غالبًا ما تستخدم السلطة ذريعة الهرج لإخفاء فشلها في إدارة الأزمات، لو كانت هناك شرطة مجتمعية فعالة أو تواصل مباشر مع أصحاب المحلات، لما وصلنا إلى هذا المشهد.”

سوهاج نموذج لغياب المؤسسات

 

ليست هذه المرة الأولى التي تُصدر فيها سلطات محلية قرارات متعجلة تمس المواطنين دون حوار أو شفافية، ففي فبراير 2023، أُغلقت عشرات المحال في مدينة طهطا بحجة “مخالفات تنظيمية” رغم أن أغلبها يعمل منذ سنوات تحت أعين السلطة.

 

ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور حسن نافعة: “ما يحدث في المحافظات هو صورة مصغرة لحكم الفرد الذي يسود البلاد منذ سنوات، المحافظون لا يُحاسَبون، ولا تُتاح وسائل تظلم فعالة للمواطن، وكل شيء يُدار بطريقة فوقية تفتقر للعدالة.”

 

الاستعراض لا الإصلاح

 

يرى مراقبون أن ما حدث في سوهاج يدخل ضمن ما يسمونه “سياسة الاستعراض الإداري”، حيث يُصدر المسؤولون قرارات صارمة أمام الكاميرات لكسب رضا السلطة المركزية، ولو على حساب حياة الناس.

 

يقول الإعلامي المعارض هيثم أبو خليل: “كل محافظ يحاول أن يظهر ولاءه للنظام من خلال قرارات قمعية، حتى لو كانت ضد العقل والمنطق.”

 

يضيف أبو خليل: “لم نرَ قرارًا بإصلاح السوق أو تخصيص منطقة تجارية أو إنشاء آلية لحل النزاعات، بل فقط تشميع وتهديد وفرض غرامات.”

 

ومنذ تولي عبد الفتاح السيسي الحكم في 2014، والقرارات القمعية الإدارية أصبحت جزءًا من الحياة اليومية، لا توجد آلية لمحاسبة المسؤولين المحليين، ولا مجلس محلي منتخب قادر على مراقبة المحافظ. المواطن وحده هو من يدفع الثمن، كما يحدث اليوم في سوهاج.

 

وفي وقت تمر فيه البلاد بأزمات متفاقمة في الاقتصاد والخدمات، تبقى الدولة مشغولة بإغلاق محلات صغار الكسبة، بدلًا من مواجهة الفساد الكبير أو محاسبة كبار المحتكرين.

 

إذا كان شجار بين شخصين سببًا لإغلاق مصدر رزق عشرات الأسر، فإننا أمام دولة لم تعد تميز بين العدل والاستبداد، قرارات المحافظين لم تعد تُعالج المشاكل بل تُعمّقها، وتحول المواطن إلى عدو في نظر السلطة، والمفارقة أن من يُغلق المحلات باسم “فرض النظام”، هو نفسه جزء من فوضى سياسية واقتصادية لا يدفع ثمنها إلا المواطن.