منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، اتخذت عمليات الإعانة الجوية وتوزيع الغذاء من الجو شكلًا بارزًا في التغطية الإعلامية الدولية. ظاهريًا، تبدو هذه العمليات وكأنها مبادرات إنسانية تُقدم إلى المحاصرين، بينما في الواقع، تحولت إلى أدوات رمزية للإذلال الجماعي، وتُخفي مأساة المجاعة التي يعيشها سكان غزة.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 2.2 مليون فلسطيني في حال “أمن غذائي حرج” (IPC Phase 3 أو أسوأ)، بينهم نحو 345 ألفًا في حالات "كارثية" (Phase 5)، مما يعني انتشار المجاعة على نطاق واسع.

 

الإذلال الجوي: "مساعدات جوية" تحمل خطرًا

منذ مارس 2025، بدأت إسرائيل بإطلاق عمليات إلقاء مساعدات غذائية من الجو، تشمل دقيقًا وعبوات طعام جاهزة، غالبًا من ضمنها عبوات تناثرت في مناطق غير مأهولة، أو قُتِل من حاولوا الوصول إليها.

بحسب مكتب الإعلام في غزة، فإن هذه العمليات تُعد تمثيلية هزيلّة تُمارس "سلوكًا مهينًا وإنسانيًا"، حيث يركض الناس وراء القنابل المعلبة بدلًا من توزيع منظم ومنصف.

هذا السعي لقطف حقيبة دقيق من السماء يُحوّلها إلى عرض للإذلال، أكثر منه ممارسة إنسانية محترمة.

 

مكافحة المجاعة بمشهد دعائي فارغ

حركة حماس وبياناتهم الرسمية اعتبرت أن هذه الإلقاءات الجوية تشكل “سياسة مجاعة مدارة”، تهدف إلى توجيه الانتباه بعيدًا عن استمرار الحصار ومنع الدخول العادي للمساعدات عبر المعابر.

بحسب تصريحاتهم، هذه المساعدات تُستخدم كبروباغاندا لتجميل الصورة الاحتلالية، بينما المجاعة مستمرة والناس يُقتلون في طوابير المساعدات على الأرض.

في تقارير منظمة الأمم المتحدة ومنظمات دولية، وُصفت الممارسات الإعلامية الغربية بأنها تُقلل من المسؤولية الإسرائيلية، وتمدّ الخطاب بغطاء من الديمقراطية الزائفة، متجاهلة استخدام مصطلح "مجاعة" الحازم حتى عندما يقرّ به القضاء الدولي والأمم المتحدة.(turn0search9)

 

المجاعة الحقيقية: الإحصائيات تكشف الواقع المرير

    وفق تصنيف IPC، وصلت غزة إلى مرحلة المجاعة (Phase 5) لنحو 133 ألف شخص، بينما كانت 664 ألفًا في إطار "الطوارئ" .

حتى يوليو 2025، بلغ عدد الوفيات جراء الجوع والتغذية الحادة أكثر من 147 شخصًا فقط، بينهم 88 طفلًا، وفق وزارة صحة غزة.

خلال يوليو وحده، لقي حوالي 63 شخصًا مصرعهم بسبب الجوع، معظمهم أطفال، بينما قامت الأمم المتحدة بتحذير صريح عن “أسوأ مجاعة في هذا القرن”.

المساعدات الصادرة في الأيام الأخيرة لم تتجاوز 60 شاحنة يوميًا، بينما المطلوب كان 100-600 شاحنة بحسب تقديرات .

 

 الإذلال كمسرحية إعلامية: صور وأحداث مروعة

في أحد مواقع توزيع المساعدات في رفح تحت إدارة مؤسسة "Gaza Humanitarian Foundation"، اندلعت فوضى مروعة أدّت لإصابة 47 شخصًا وسط حشد يائس يسعى للحصول على سلة غذاء. قُتل بعض الأشخاص برصاص الحراسة الإسرائيلية، بينما يحاولون الوصول إلى طرود الدقيق والسكر. هذه المشاهد اعتُبرت "مقبرة الكرامة البشرية".

مواطن مثل جيهاد العسّار سُجل وهو يسير مدة 10 كم حتى الوصول إلى نقطة توزيع، وسط ضغط رهيب وسلوك عدائي يُظهر وقعًا نفسيًا مستمرًا للإذلال، بينما القوات الأجنبية تقف مكتوفة الأيدي.

في المشهد الأكثر درامية، أُطلق نار لتفريق الناس الذين حاولوا التقاط المساعدات الملقاة من الطائرات، وأسفر ذلك عن مقتل قاصر بـ "رصاص خلفي" ـ وهو أحد مظاهر الإذلال التي أتاحت استخدام القوة ضد شعب جائع يلاحق جرة دقيق.

 

التغطية الإعلامية الأجنبية: تلاعب وإخفاء المسؤولية

كثير من وسائل الإعلام الغربية الكبرى استخدمت صياغات مثل "أزمة غذائية" أو "طفل يموت من سوء التغذية"، وتجنبت استخدام مصطلح "مجاعة"، ما يُضعف الإدانة القانونية والسياسية للإدارة الإسرائيلية.

كشفت تقارير CNN وLe Monde كمثال: أولاً قدمت القصة كحادثة إنسانية منفردة، وتجنبت التركيز على أن المجاعة حصلت بسبب السياسة الإسرائيلية، بينما ثانياً، احتفظت بصياغة غامضة تُشبه التقليب في الرواية أكثر من الحقيقة.

أما تحليلات The Washington Post وVox فقد وصفت المشهد بأنه مجاعة "من صنع الإنسان"، تُستخدم أدوات إعلامية وإجراءات رمزية مثل "الإسقاط الجوي" لتغسل الصور دون تغيير الواقع.(turn0news12),(turn0news17)

 

التأثير النفسي على المدنيين: إذلال وجوع بدون كلمات

أولئك الذين يمثلون أعلى مستويات الإذلال هم من ينتظرون المساعدات وسط حرارة الشمس بلا ونفاد للصبر. قصص مثل قصة ولاء أبو سعداء («لم يكن لديها حتى رضّاعة لطفلها 10 أشهر»)، وقصة جيهاد، جميعها تحمل دفقة من المرارة والعار النفسي، فقد اضطروا ليبحثوا عن فتات الأرض غير آبهين بمنظور الكرامة الاجتماعية والتعليم.

هذه القصص لا تنتمي إلى مجرد تذمّر: إنها تحمل رسائل سياسية واجتماعية عميقة: غياب الكرامة هو جزء من الحرب، وليس عرضًا طرفيًا.

وأن الحرب على غزة تحوّلت إلى مسرح يتم فيه تحويل المجاعة الحقيقية إلى صور مؤقتة لا تُسمن ولا تغني، تُستعمل لتجميل صورة الاحتلال وتفجيع ضمير العالم بصيغة إنسانية دون تغيير سياسي جوهري. الحق في الغذاء حُرم منه شعب بأكمله، والإذلال الجوي أصبح غطاء إعلامي لسياسات معاقبة لا توقف ما لم تبدأ بخارطة طريق جادة لإنقاذ الأرواح ووقف النهب الإنساني.