لم يعد الزواج في مصر "نصف الدين" كما تقول المأثورات الشعبية، بل تحول إلى "مهمة مستحيلة" في ظل واقع اقتصادي طاحن جعل من تكوين الأسرة حلماً بعيد المنال لملايين الشباب.

 

الأرقام الرسمية وغير الرسمية ترسم صورة قاتمة لمستقبل المجتمع المصري، حيث تشير التقديرات إلى وجود نحو 14 مليون فتاة تجاوزن سن الـ 34 دون زواج، بالتوازي مع انفجار في معدلات الطلاق التي وصل عدد المطلقات فيها إلى قرابة 7 ملايين سيدة.

 

هذه المؤشرات الكارثية ليست مجرد تحولات اجتماعية عابرة، بل هي، بحسب خبراء الاجتماع، نتاج مباشر لسياسات اقتصادية حولت الزواج من "مشروع حياة" إلى "عبء مالي" لا يطاق.

 

فبين مطرقة الغلاء وسندان الأجور الهزيلة، تجد الأسرة المصرية نفسها محاصرة، ليدفع المجتمع ثمن فشل إدارة الملف الاقتصادي تفككاً وعنوسة وعزوفاً، في دولة بات فيها "الستر" سلعة للأغنياء فقط.

 

الاقتصاد "عدو" الأسرة: عندما يصبح الزواج رفاهية

 

يرى خبراء علم الاجتماع أن العامل الاقتصادي هو المحرك الأول لهذه الأزمة. وفي هذا السياق، تؤكد الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن عزوف الشباب عن الزواج ليس خياراً بل "إجباراً".

 

وتوضح خضر أن الشاب المصري الذي يتقاضى راتباً يتراوح بين 3 و6 آلاف جنيه يجد نفسه عاجزاً عن توفير "شقة الزوجية" التي باتت أسعارها وإيجاراتها فلكية، ناهيك عن تكاليف "الجهاز" والذهب.

 

وتضيف: "السياسات التي رفعت الدعم وحررت الأسعار دون حماية الأجور جعلت الشاب يهرب من مسؤولية الزواج لأنه بالكاد يكفي نفسه، مما أدى إلى ارتفاع سن الزواج بشكل غير مسبوق، وتهديد النسيج الاجتماعي بظواهر كانت غريبة عليه".

 

الطلاق كـ"هروب" من ضغوط المعيشة

 

على الضفة الأخرى، لا يبدو حال المتزوجين أفضل كثيراً. يشير الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، إلى أن "الفقر هو العدو الأول لاستقرار البيوت".

 

ويربط صادق بين ارتفاع معدلات الطلاق (التي زادت بنسبة 3.1% في 2024 وفقاً لجهاز الإحصاء) وبين الضغوط المعيشية الخانقة.

 

ويقول: "عندما يتحول النقاش اليومي بين الزوجين إلى صراع حول (مصاريف الأكل والدروس والعلاج)، تتآكل المودة وتحل محلها العصبية والعنف الأسري".

 

ويحذر صادق من أن الدولة بتخليها عن دورها في توفير تعليم وصحة مجانيين جيدين، ألقت بعبء لا يحتمل على كاهل الأسرة، مما جعل الطلاق نتيجة حتمية لانهيار القدرة على التحمل، وليس مجرد فشل عاطفي.

 

معايير "مشوهة" ومجتمع "طبقي"

 

من زاوية أخرى، تنتقد الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، التحولات القيمية التي رافقت الأزمة الاقتصادية.

 

ترى منصور أن المجتمع المصري أصبح "مادياً بامتياز"، حيث يتم تقييم العريس بـ"رصيده وشقته" وليس بأخلاقه.

 

وتضيف: "الأهالي، تحت ضغط الخوف من المستقبل، يغالون في المهور والشبكة كنوع من (تأمين) ابنتهم، لكنهم في الواقع يحكمون عليها بالعنوسة".

 

وتشير إلى أن سوء الاختيار المبني على "المصلحة المادية" هو السبب في أن نسباً كبيرة من حالات الطلاق تقع في السنة الأولى، لأن الزواج لم يُبنَ على أسس التوافق، بل على "صفقة" سرعان ما تنهار أمام أول اختبار مالي.

 

الانفجار القادم: جيل بلا أمل

 

يحذر الدكتور حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع، من التبعات طويلة المدى لهذه الظاهرة.

 

يرى الخولي أن وجود ملايين الشباب والفتيات المحرومين من حقهم الطبيعي في الزواج والإنجاب يخلق "قنبلة موقوتة" من الإحباط واليأس.

 

ويؤكد أن الدولة التي تطالب بتحديد النسل هي نفسها التي تدفع المجتمع للانقراض عبر سياسات الإفقار.

 

ويختتم الخولي رؤيته بأن "الحل ليس في حملات التوعية أو المبادرات الشكلية، بل في عدالة اجتماعية حقيقية تعيد للمواطن قدرته على الحلم ببيت وأسرة، وإلا فإننا نتجه نحو مجتمع مفكك، تكثر فيه الجريمة والانحرافات السلوكية كبديل عن الدفء الأسري المفقود".