رغم تحقيق مصر طفرة غير مسبوقة في إنتاج السكر، وصلت لأول مرة في تاريخها إلى أكثر من 3.1 مليون طن سنويًا، فإن هذه الوفرة تحولت إلى عبء ثقيل على كاهل مصانع السكر الحكومية والخاصة، التي تجد نفسها اليوم عالقة بين تكاليف إنتاج مرتفعة، وأسعار بيع منخفضة، ومنافسة غير متكافئة مع السكر المستورد، ما أدى إلى خسائر فادحة تهدد استدامة الصناعة برمتها.
إنتاج قياسي… وخسائر بالمليارات
تنتج مصر حاليًا نحو 3 ملايين طن من السكر سنويًا، مقابل استهلاك يبلغ حوالي 3.4 مليون طن، وهو ما يعني اقتراب البلاد من تحقيق الاكتفاء الذاتي. وتتنوع مصادر الإنتاج بين 620 ألف طن من قصب السكر، ونحو 2.5 مليون طن من بنجر السكر، وفق بيانات وزارة الزراعة.
لكن هذه الأرقام الإيجابية لم تنعكس أرباحًا على المصانع، بل على العكس، تشير تقديرات مسؤولي الصناعة إلى أن المصانع تبيع السكر بخسائر تتراوح بين 3 آلاف و6 آلاف جنيه للطن الواحد، في محاولة لتوفير سيولة عاجلة لسداد مستحقات المزارعين وتجنب مزيد من الأعباء التمويلية.
منافسة غير عادلة وسوق مختل
جوهر الأزمة، بحسب مسؤولين حكوميين ورؤساء شركات، يتمثل في فتح باب استيراد السكر الخام بأسعار منخفضة عالميًا، ثم إعادة تكريره محليًا وطرحه في السوق بسعر يقل كثيرًا عن تكلفة إنتاج السكر المصنّع بالكامل داخل مصر.
فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر طن السكر المستورد نحو 22 ألف جنيه، تضاف إليه حوالي 2000 جنيه فقط كتكلفة تكرير، ليباع في السوق بنحو 24 ألف جنيه، في حين تتجاوز تكلفة إنتاج الطن محليًا 30 ألف جنيه، ما يضع المصانع الوطنية في موقف تنافسي خاسر.
ورغم قرار وزارة الاستثمار حظر استيراد السكر المكرر لمدة ثلاثة أشهر تنتهي في فبراير 2026، فإن استمرار استيراد السكر الخام أفرغ القرار من مضمونه، وفتح الباب أمام ما يصفه المصنعون بـ"التحايل التجاري" الذي يضر بالصناعة الوطنية.
مخزون متكدس وسيولة شحيحة
تفاقمت الأزمة مع تراكم مخزون ضخم من السكر لدى المصانع، يقدر بنحو 1.3 مليون طن، وهو مخزون يغطي احتياجات السوق لأكثر من 13 شهرًا، بحسب شعبة السكر باتحاد الصناعات.
هذا الفائض قلّص المبيعات، وأجبر المصانع على خفض الأسعار لتصريف المخزون، حتى لو كان ذلك بخسارة، إذ يرى المسؤولون أن الخسارة في البيع أقل ضررًا من الاحتفاظ بالسكر في المخازن، حيث تزيد تكلفته بنحو 4 آلاف جنيه للطن بسبب الفوائد البنكية.
المزارع أول المتضررين
الأزمة لم تقتصر على المصانع وحدها، بل امتدت إلى المزارعين، خاصة مزارعي بنجر السكر.
فقد خفضت الحكومة السعر الاسترشادي لتوريد البنجر لموسم 2025-2026 بنسبة 16.6% ليصل إلى 2000 جنيه للطن، مقارنة بـ2400 جنيه في الموسم السابق، في محاولة للحد من الفائض.
ويحذر مختصون من أن هذا الخفض قد يدفع المزارعين إلى تقليص المساحات المزروعة مستقبلًا، ما يهدد استقرار سلاسل الإمداد الزراعية، ويقوض الاستثمارات التي ضُخت في التوسع بزراعة البنجر خلال السنوات الأخيرة.
خسائر تتجاوز 10 مليارات جنيه
رؤساء شركات في القطاع الخاص يؤكدون أن خسائر مصانع السكر هذا العام وحده تجاوزت 10 مليارات جنيه، مع فقدان نحو 6 آلاف جنيه في كل طن يُباع.
ويحذرون من أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى إغلاق بعض المصانع، وفقدان آلاف الوظائف، وضياع استثمارات ضخمة في قطاع استراتيجي.
ويطالب هؤلاء بفرض رسوم حمائية أو رسوم إغراق على واردات السكر الخام والأبيض، أو على الأقل تحديد حصص استيرادية (كوتا) تضمن تكافؤ الفرص بين المنتج المحلي والمستورد.
الحكومة بين الحماية والتوازن
من جانبها، تؤكد وزارة التموين أنها تتخذ إجراءات لدعم الصناعة، من بينها حظر استيراد السكر المكرر، والتنسيق مع وزارات الاستثمار والزراعة، وجهاز "مستقبل مصر"، إضافة إلى التنسيق مع الجهاز المصرفي لتوفير إتاحات مالية مؤقتة للمصانع.
وترى الحكومة أن هذه الإجراءات تهدف إلى تحقيق التوازن في السوق، والحفاظ على صناعة السكر كأحد مكونات الأمن الغذائي.
البنوك تزيد الضغوط
على صعيد التمويل، أصبحت مصانع السكر – خصوصًا المعتمدة على البنجر – أكثر عرضة للتحفظ المصرفي.
فبعض البنوك باتت تتردد في منح تمويلات جديدة بسبب تذبذب الأسعار وضعف التدفقات النقدية، في حين تحظى المصانع المعتمدة على السكر المستورد بمرونة أكبر نظرًا لانخفاض مخاطرها التشغيلية.
رمضان بلا زيادات… مؤقتًا
رغم كل ذلك، يستبعد خبراء حدوث زيادات في أسعار السكر للمستهلك خلال الفترة المقبلة، حتى مع اقتراب شهر رمضان، مستندين إلى وفرة المخزون وبدء دخول إنتاج قصب السكر ثم البنجر تباعًا.
ويتراوح سعر طن السكر من المصنع حاليًا حول 26 ألف جنيه، بينما يباع للمستهلك بسعر يتراوح بين 28 و35 جنيهًا للكيلو.

