فتَح صندوق النقد الدولي الباب أمام حكومة الانقلاب للحصول على شريحة تمويل جديدة بقيمة 2.5 مليار دولار ضمن برنامج إجمالي قدره 8 مليارات دولار تم الاتفاق عليه في مارس/آذار 2024 لمدة 46 شهراً، رغم استمرار مؤشرات الاختلال الهيكلي وتفاقم أعباء الديون.

 

وأعلن الصندوق التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن دمج المراجعتين الخامسة والسادسة، إلى جانب المراجعة الأولى لبرنامج “تسهيل الصلابة والاستدامة” الذي قد يتيح تمويلاً إضافياً يصل إلى 1.3 مليار دولار بانتظار موافقة المجلس التنفيذي. وبينما تُقدَّم الخطوة كـ“دعم للاستقرار”، يرى منتقدون أن ما يحدث عملياً هو استمرار سياسة “الديون لتسديد الديون”، مع كلفة اجتماعية تتوسع كل عام.

 

اتفاق جديد.. بشروط قديمة وبيع أسرع للأصول

 

حسب ما ورد، الصندوق أقرّ بأن وتيرة “الإصلاحات الهيكلية” لا تزال بطيئة، خصوصاً في بند تقليص دور الدولة والتخارج من الأصول العامة. وفي المقابل، تتحرك الحكومة لتسريع بيع الأصول عبر تعديلات تشريعية أُقرت في أغسطس/آب الماضي، ما فتح باب المخاوف من بيع أصول استراتيجية بأقل من قيمتها الحقيقية وفي توقيت تفاوضي ضعيف. ورغم أن رئيسة بعثة الصندوق إلى مصر، إيفانا فلادكوفا هولار، تربط “النمو المستدام” بشرط تقليص دور الدولة وتكافؤ الفرص، يرى منتقدون أن الحديث عن منافسة عادلة يصبح بلا معنى في اقتصاد تُهيمن فيه مؤسسات سيادية وعسكرية على مفاصل واسعة.

 

هنا يبرز تعليق الخبير الاقتصادي ممدوح الولي الذي يرى أن الاقتراض الجديد لا يذهب إلى دعم الإنتاج أو تخفيف الفقر، بل يُستخدم أساساً لسداد التزامات قديمة، بما يعني تدوير الأزمة لا حلّها، ويحذر من أن “تسييل الأصول” تحت ضغط الصندوق يرهن المستقبل الاقتصادي للبلاد. ومن زاوية قريبة، كان الخبير الاقتصادي هاني توفيق قد انتقد في سياق سابق اعتماد السلطة على “الأموال الساخنة” كدعامة للجنيه، مطالباً بالتركيز على الاستثمار الأجنبي المباشر لأنه يصنع وظائف ويعزز التصدير ويقلل المديونية، لا أن يترك الاقتصاد رهينة لتقلبات رأس المال سريع الهروب.

 

أرقام “مطمئنة” على الورق.. وواقع معيشة أشد قسوة

 

يستند صندوق النقد في تبرير قراره إلى ما يصفه بـ“تحسن الاستقرار الكلي”، مثل تراجع التضخم السنوي في المدن إلى 12.3% في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 بعد أن بلغ ذروته قرب 38% في سبتمبر/أيلول 2023، وارتفاع الاحتياطي لأكثر من 50 مليار دولار، وتحسن النمو وفق تقديراته ليتجاوز 5%. لكن هذا “التحسن” لا يجيب عن سؤال بسيط: إذا كانت المؤشرات تتقدم، فلماذا لا يشعر بها المواطن في أسعار الطعام والسكن والكهرباء والخدمات؟ النقاد يصفون ذلك بأنه “استقرار محاسبي مؤقت” قائم على القروض وتسييل الأصول أكثر من كونه إصلاحاً إنتاجياً أو عدالة اجتماعية.

 

هنا يتقاطع الملف مع طرح الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب، الذي سبق أن قال إن ما يُرى في البنوك “مدار” إلى حد كبير، وإنه لا توجد سوق صرف حقيقية طالما يعجز المواطن عن الحصول على احتياجاته من العملة عبر القنوات المصرفية، وأن انخفاض الدولار لا ينعكس تلقائياً على الأسعار لأنه قد يكون “انخفاضاً وهمياً” بلا أثر مع استمرار رفع كلفة الطاقة والرسوم والخدمات. هذه المقاربة تفسر لماذا تُسوِّق الحكومة “هبوط التضخم” بينما تظل الأسر تقاتل لتدبير الأساسيات: لأن خفض الرقم لا يعني بالضرورة خفض الفاتورة الحقيقية على الأرض، خصوصاً عندما يستمر الضغط من جانب الأسعار الإدارية والضرائب غير المباشرة.

 

ديون تتضخم.. وفوائد تلتهم الدولة والثمن يدفعه الفقراء

 

وفق الوثائق الحكومية الواردة في النص، بلغ إجمالي الدين العام 14.9 تريليون جنيه (نحو 313 مليار دولار) بنهاية يونيو 2025 بزيادة سنوية تجاوزت 15%، وتخطى الدين الخارجي 161 مليار دولار. الأخطر أن فوائد الدين وحدها تلتهم قرابة 80% من إيرادات الدولة في موازنة 2025/2026، ما يحول الموازنة عملياً إلى “ميزانية خدمة دين” قبل أن تكون ميزانية تعليم أو صحة أو حماية اجتماعية.

 

في هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي وائل جمال أن الصندوق لا يسعى لإسقاط مصر لكنه أيضاً لا يسعى لإنقاذ المصريين، وأن هدفه الأساسي ضمان سداد الديون واستمرار النظام المالي حتى لو كان الثمن تحميل المجتمع أعباء غير محتملة.

 

أما على المستوى المعيشي، فإن سياسات رفع الدعم وتحرير سعر الصرف وزيادات الوقود والكهرباء أدت إلى تآكل القدرة الشرائية ودفع قطاعات واسعة إلى ما دون خط الفقر وفق مؤشرات البنك الدولي، بينما لا يشعر المواطن بانعكاس “مكاسب الاستقرار” إلا في مزيد من التقشف. ومع تكرار مشاهد انقطاع الكهرباء وتحوّل “إصلاح البيت” وتجديد الأثاث إلى رفاهية مؤجلة، تصبح “الشريحة الجديدة” خبراً جيداً للخزانة على الورق، وسيئاً للأسرة التي تعيش على الحافة.