يلخص الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، تحذير علماء السلف من خطورة تلقي العلم الشرعي والقرآن بعيداً عن المتخصصين والشيوخ الثقات، مشيراً إلى أن الاعتماد الحصري على الكتب والصحف يورث ضعف البصيرة والتعصب للرأي ورفض الحوار. ويوضح أن القراءة الفردية دون معلم تحرم الطالب من آليات المراجعة وتصحيح الفهم، مما قد يوقعه في سوء الاستنباط والخطأ وهو لا يشعر.

 

ويشبه النص علوم الشريعة بالبحر العميق الذي لا يؤمن الغرق فيه دون دليل يفسر الغوامض ويربط الفروع بالأصول. وتأسيساً على ذلك، أطلقت القاعدة المشهورة: "لا تأخذ القرآن من مُصْحَفيّ، ولا العلم من صَحَفيّ"، للتحذير ممن اكتفى بحفظ الرسم القرآني أو قراءة الكتب دون التلقي المباشر والمشافهة والتتلمذ على يد أهل العلم المتقنين.

 

في عصر أصبحت فيه المعلومة متاح ة للجميع بضغطة زر، برزت ظاهرة خطيرة تهدد البصيرة الدينية والعلمية، وهي ظاهرة "التعالم" أو أخذ العلم من بطون الكتب والصحف مباشرة دون الرجوع إلى أهل الاختصاص. النص الذي بين أيدينا يُشخّص بدقة هذه الإشكالية، موضحاً أن كثيراً من الشباب المخلصين يقعون في فخ الاستغناء عن الشيوخ والمعلمين، ظناً منهم أن القراءة وحدها تكفي لفهم الشريعة واستنباط الأحكام. هذا التقرير يُفصّل ما ورد في النص من أسباب ضعف البصيرة لدى هؤلاء، ومخاطر السباحة المنفردة في بحر العلم، وتحذيرات السلف من تلقي المعرفة ممن لم يتلقوها مشافهة وتدرجاً، مع الحفاظ على كل كلمة وردت في النص الأصلي لتبيان عمق هذه القضية وأثرها.

 

ضعف البصيرة وغياب الحوار: عندما يصبح الرأي مقدساً

 

يستهل النص تشخيصه بتسليط الضوء على إحدى أهم آفات هؤلاء المتعالمين، وهي الانغلاق الفكري. فهم كما يصفهم النص: "لا يسمعون لمن يخالفهم في الرأي، ولا يقبلون الحوار معه، ولا يتصورون أن تتعرض آراؤهم للامتحان، بحيث توازن بغيرها، وتقبل المعارضة والترجيح". هذا الرفض المبدئي للنقاش يجعلهم أسرى لفهمهم الأحادي، ويحرمهم من فرصة تصحيح المسار.

 

يعزو النص هذا الخلل إلى المنهجية الخاطئة في التلقي، حيث يقول: "وكثير منهم لم يتلق العلم من أهله وشيوخه المختصين بمعرفته، وإنما تلقاه من الكتب والصحف مباشرة". هذه الطريقة تحرم طالب العلم من أهم أدوات التعلم الحقيقي، وهي "المراجعة والمناقشة والأخذ والرد، واختبار فهمه ومعلوماته ووضعها على مشرحة التحليل، وطرحها على بساط البحث". فالقراءة الفردية قد تقود إلى فهم مغلوط لا يجد من يصححه، إذ "ربما أساء القراءة، أو أساء الفهم، أو أساء الاستنباط، وهو لا يدري"، وقد يغيب عنه "معارض أقوى وهو لا يعلم، لأنه لم يجد من يوقفه عليه".

 

مخاطر السباحة المنفردة في بحر الشريعة

 

ينتقل النص ليشبه دراسة الشريعة دون معلم بالسباحة في بحر هائج، محذراً من أن هؤلاء الشباب "غفلوا أن علم الشريعة وفقهها لا بد أن يرجعوا فيه إلى أهله الثقات، وأنهم لا يستطيعون أن يخوضوا هـذا الخضم الزاخر وحدهم، دون مرشد يأخذ بأيديهم، ويفسر لهم الغوامض والمصطلحات، ويرد الفروع إلى أصولها، والنظائر إلى أشباهها".

 

استخدام استعارة البحر هنا ليس عبثياً، فالنص يؤكد: "فأما من سبح في هـذا البحر وحده، ولم يكن حاذقا في السباحة، فيخشى عليه أن تتقاذفه الأمواج، ويأخذه التيار إلى غير ما يريد، وكثيرا ما يبتلعه اليم، ولا يصل إلى الشاطئ المنشود، ولا يجد من ينقذه". هذه النتيجة المأساوية هي المصير المحتوم لمن "مضى وحده دون معين أو دليل". ويخلص النص إلى قاعدة ذهبية مفادها أن "دراسة الشريعة بغير معلم، لا تسلم من مخاطرات، ولا تخلو من ثغرات وآفات، لا تتضح إلا بالممارسة والاحتكاك، وخصوصا عند مفارق الطرق، ومواضع الاشتباه، وتعارض الأدلة والاعتبارات".

 

تحذيرات السلف: من هو "المُصْحَفيّ" ومن هو "الصَحَفيّ"؟

 

يختتم النص بتأصيل هذه القضية من خلال أقوال علماء السلف الذين استشرفوا خطر هذا النوع من المتعلمين، فكانوا "يحذرون من تلقي العلم عن هـذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي".

 

ويُفصّل النص المقصود بهذين اللقبين بدقة؛ فهم "يعنون بالمصحفي: الذي حفظ القرآن من المصحف فحسب، دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من شيوخه وقرائه المتقنين". فالقرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي المباشر لضبط مخارج الحروف وأحكام التلاوة التي لا يمكن للرسم العثماني وحده أن ينقلها. أما اللقب الثاني، فهم "يعنون بالصحفي: الذي أخذ العلم من الصحف وحدها من غير أن يتتلمذ على أهل العلم، ويتخرج على أيديهم".

 

هذه المقولة المأثورة تلخص جوهر الأزمة؛ فالعلم ليس مجرد معلومات تُجمع، بل هو منهجية تُتلقى، وأدب يُكتسب، وفهم يُنقل من صدر إلى صدر، وليس مجرد نقل من سطر إلى سطر. وبذلك، يظل الرجوع إلى أهل الاختصاص هو صمام الأمان الوحيد لعصمة الفهم من الزلل، وحماية الشريعة من عبث العابثين وجهل الجاهلين.