في خطوة تكرس هيمنة السلطة التنفيذية على أهم مؤسسة نقدية في البلاد، أصدر قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، اليوم الثلاثاء، القرار الجمهوري رقم 733 لسنة 2025، والذي يقضي بإعادة تشكيل مجلس إدارة البنك المركزي المصري، متضمناً التجديد لحسن عبد الله كـ "قائم بأعمال" محافظ البنك المركزي لمدة عام آخر.

 

هذا القرار، الذي يبدو في ظاهره إجراءً إدارياً روتينياً، يحمل في طياته دلالات سياسية واقتصادية خطيرة، تكشف عن نهج ممنهج لتقويض استقلالية المؤسسات الرقابية والمالية في مصر، وتحويلها إلى مجرد أذرع تنفيذية لقرارات القصر الرئاسي، حتى وإن كانت تلك القرارات تعصف بمعيشة المواطنين وتخالف نصوص الدستور والقانون.

 

يأتي هذا التجديد الرابع لحسن عبد الله، الذي خلف طارق عامر في أغسطس 2022، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمات هيكلية خانقة، وتضخم غير مسبوق، وانهيار في القوة الشرائية للعملة المحلية. وبالرغم من أن القانون يحدد آليات واضحة لتعيين المحافظ لضمان حصانته وقدرته على اتخاذ قرارات فنية بعيداً عن الضغوط السياسية، إلا أن النظام يصر على إبقاء المنصب معلقاً بصفة "القائم بالأعمال"، مما يثير تساؤلات مشروعة حول ما أنجزه الرجل ليستحق هذا التمسك به، أم أن "السمع والطاعة" هي المؤهل الوحيد المطلوب في هذه المرحلة؟

 

تحايل مفضوح على القانون لتأميم القرار النقدي

 

يكشف القرار الأخير عن فجوة هائلة بين النصوص القانونية والواقع العملي الذي يفرضه السيسي. فقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020 ينص بوضوح لا لبس فيه على أن محافظ البنك المركزي يُعين بقرار من رئيس الجمهورية، ولكن بشرط جوهري وهو "موافقة مجلس النواب"، ولمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، لضمان استقرار السياسة النقدية وتحصين المحافظ من العزل إلا في حالات محددة.

 

ما يمارسه السيسي هو التفاف صريح على هذا النص؛ فاستمرار حسن عبد الله بصفة "قائم بالأعمال" لأكثر من ثلاث سنوات يحرمه من الحصانة القانونية التي يوفرها التعيين الرسمي، ويجعله موظفاً "تحت الطلب" يمكن الإطاحة به بجرة قلم في أي لحظة دون الحاجة للرجوع إلى البرلمان. هذه الوضعية الهشة تضمن للنظام ولاءً مطلقاً من رأس السلطة النقدية، وتلغي عملياً أي هامش للمناورة أو الاعتراض الفني على السياسات المالية الحكومية التي تعتمد على الاستدانة المفرطة والإنفاق ببذخ على مشاريع غير ذات جدوى اقتصادية، بينما يُترك البنك المركزي ليدير الأزمات الناتجة عن تلك السياسات عبر حلول ترقيعية يدفع ثمنها المواطن.

 

حصاد الفشل: تعويم وإفقار.. ماذا قدم المحافظ لكي يتم التجديد له؟

 

إذا نحينا الجانب القانوني جانباً ونظرنا إلى الأداء الفني، فإن التساؤل يطرح نفسه بحدة: ما هي الإنجازات التي حققها حسن عبد الله لتبرر التجديد له للمرة الرابعة؟ الواقع يشير إلى أن فترة "القائم بالأعمال" شهدت واحدة من أقسى الفترات الاقتصادية على المصريين. فقد أشرف عبد الله على تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي بحذافيرها، والتي تضمنت تحريراً كاملاً ووحشياً لسعر الصرف، مما أدى إلى انهيار الجنيه المصري وفقدانه أكثر من نصف قيمته في فترة وجيزة، وما تبع ذلك من موجات تضخمية أكلت مدخرات الطبقة المتوسطة وسحقت الفقراء.

 

لم ينجح المحافظ "المؤقت" في كبح جماح التضخم، ولا في السيطرة على الدين الخارجي الذي تضخمت فوائده لتلتهم الموازنة العامة. بل تحول البنك المركزي في عهده إلى مؤسسة لتيسير تدفق "الأموال الساخنة" مرة أخرى، وهي السياسة التي أثبتت فشلها سابقاً وتسببت في انكشاف الاقتصاد المصري أمام الصدمات الخارجية. إن التجديد لعبد الله لا يعكس رضاً عن أداء اقتصادي متميز، بقدر ما يعكس رضاً عن استعداده الكامل لتمرير القرارات الصعبة سياسياً، مثل رفع الفائدة لمستويات قياسية وتقليص الدعم، دون إبداء أي مقاومة مؤسسية تحمي الأمن الاجتماعي للمصريين.

 

إدارة الدولة بالخوف: تعميم نموذج "الموظف المؤقت"

 

لا يمكن فصل قرار التجديد لمجلس إدارة البنك المركزي، بما فيه من نواب وخبراء مثل رامي أبو النجا وطارق الخولي، عن السياق العام الذي يدير به السيسي مفاصل الدولة. فقد باتت ظاهرة "التعيين المؤقت" أو "القائم بالأعمال" هي القاعدة وليست الاستثناء، وشملت رؤساء الجامعات، والهيئات الرقابية، والشركات القابضة، وحتى الوزارات في بعض الفترات.

 

هذا النهج يعكس رغبة محمومة في السيطرة المركزية، حيث يظل المسؤول في حالة قلق دائم على منصبه، مما يدفعه للتسابق في إرضاء رأس السلطة بدلاً من خدمة الصالح العام أو الالتزام بمعايير المهنة. إن استقدام أسماء جديدة لمجلس الإدارة، أو الإبقاء على الحرس القديم، لا يغير من المعادلة شيئاً طالما أن رأس الهرم يدار بآلية "مؤقتة" تفتقر للشرعية الدستورية الكاملة. بهذه الطريقة، نجح النظام في تفريغ المؤسسات المستقلة من مضمونها، وتحويل البنك المركزي من "بنك البنوك" وضامن الاستقرار المالي، إلى مجرد خزانة خلفية لتمويل طموحات السلطة ومشاريعها، بينما يقبع القانون والدستور في أدراج النسيان.