في واحدة من أكثر الصفقات إثارة للجدل في تاريخ مصر الحديث، أعلنت حكومة الانقلاب توقيع اتفاق استيراد غاز طبيعي من إسرائيل بقيمة 35 مليار دولار على مدى عشرين عامًا. خسارةٌ سياسية واقتصادية فادحة تُخفيها الحكومة وراء لغة "المنفعة الاقتصادية"، بينما تؤكد الوقائع أنها ليست سوى تحويل مباشر لمليارات الجنيهات من خزينة المصريين إلى خزينة الاحتلال الإسرائيلي الذي يعيش أزمة مالية خانقة بسبب حربه على غزة وتداعيات المقاطعة الدولية.
الصفقة التي وصفها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنها “تاريخية” ستدر على إسرائيل 18 مليار دولار نقدًا للخزانة العامة، مخصصة لدعم التعليم والصحة والبنية التحتية والأمن، بحسب تصريحه الأربعاء الماضي.
أي أن دماء الفلسطينيين وضرائب المصريين يتقاطعان لتمويل دولة تمارس القتل اليومي في غزة. ومع ذلك، تحاول الحكومة في القاهرة تصوير الصفقة كـ"تعاون تجاري بحت" لا يحمل أبعادًا سياسية، متجاهلة أنّ موافقة نتنياهو نفسها كانت مشروطة بضمان “تحقيق المصالح الأمنية العليا لإسرائيل”.
“أموال المصريين لإنقاذ اقتصاد الاحتلال”
يقول الكاتب الاقتصادي مصطفى عبدالسلام إن الحكومة تخدع الشعب بزعم أن الصفقة “اقتصادية بحتة”، بينما حقيقتها العارية أنها دعم مباشر لاقتصاد الاحتلال: “مليارات الدولارات ستتدفق من خزانة مصر المنهكة إلى تل أبيب.بهذه الأموال ستُرمَّم مدارس الاحتلال ومستشفياته المهدَّمة بصواريخ المقاومة، بينما المدارس المصرية في القرى لا تجد طباشير. إنها أكبر عملية نقل ثروة في تاريخ المنطقة لصالح العدو.”
ويضيف عبدالسلام أن تبريرات النظام بأن الصفقة ستدرّ دخلاً عبر التسييل والتصدير “كذب مفضوح”، موضحًا أن العقود صُممت لضمان هامش ربح متدنٍ لمصر، بينما يحصل الجانب الإسرائيلي على أكثر من 60% من قيمة الاتفاق عبر شركاته المحلية المشاركة في حقل ليفياثان.
“وهم اقتصادي.. وعار سياسي”
أما الصحفية سالي صلاح فوصفت الصفقة بأنها “صفعة سياسية واقتصادية لا تُغتفر”، وقالت في تصريح خاص إن “ما يحدث ليس تجارة غاز، بل اعتراف جديد بفشل الدولة في إدارة مواردها، وتطبيع وقح اقتصادي مع عدو غارق في دماء غزة”.
وتضيف صلاح: “بينما يئن المصريون من غلاء الكهرباء، ويبحثون عن أنبوبة غاز بأسعار خيالية، يجلس وزير البترول ليبرر استيراد الغاز من العدو، وكأننا بلا حقول، بلا كرامة، بلا ذاكرة.”
وترى أن الهدف الخفي للصفقة هو إرضاء واشنطن وتأكيد تبعية النظام السياسي لمعادلة “التحالف الإقليمي” الذي تقوده الولايات المتحدة، وليس تحقيق مصلحة اقتصادية لمصر.
“تزييف الأرقام وخداع الشعب”
الخبير الاقتصادي ممدوح الولي هاجم رواية السلطة التي تتحدث عن “وفر مالي” يصل إلى 27 مليار دولار قائلاً: “هذه أرقام تسويقية لا علاقة لها بالأسعار العالمية. الغاز الذي ستستورده مصر أغلى من سعر السوق الفعلي، والاتفاق مُلزم لسنوات طويلة بمعدلات لا تتناسب مع الاستهلاك المحلي ولا مع الصادرات، ما يعني تكبيد الدولة خسائر تراكمية هائلة.”
ويشير الولي إلى أنّ “تضليل الناس بالأرقام أسلوبٌ معتادٌ لدى النظام الحالي لتبرير الفساد والسقوط الاقتصادي، تمامًا كما تم ترويج مشروعات وهمية تحت شعار ‘الجمهورية الجديدة’ بينما يغرق البلد في الديون والفقر”.
“تواطؤ سياسي وعداء للشعب”
من جهته، كتب عبدالناصر سلامة، رئيس تحرير الأهرام الأسبق، أن الصفقة تكشف جوهر أولويات سلطة الانقلاب: “من يبيع الغاز للعدو ثم يشتريه منه لا يمكن أن يُسمى دولة، بل إدارة فاسدة تعمل لمصلحة الخصم.”
وأضاف أن هذه الصفقة “هي النتيجة الطبيعية لسياسة التبعية والانبطاح التي حولت مصر من دولة فاعلة إلى تابع سياسي واقتصادي لإسرائيل وواشنطن… من يرفع شعار الأمن القومي لا يمكن أن يمول جيش العدو بخزانة وطنه.”
سلامة يرى أن أخطر ما في الأمر هو الطبيعية التي أصبحت تُطرح بها مثل هذه القرارات: “لم تعد هناك خطوط حمراء، فالتطبيع صار اقتصادياً وشعبياً وإعلامياً تحت مظلة القمع، بينما أي صوت ناقد يُسحق فورًا.”
“صفقة خيانة وطنية”
الكاتب وائل قنديل وصف الصفقة بأنها “جريمة سياسية مكتملة الأركان” معتبراً أن “عبدالفتاح السيسي لم يكتف بتكميم أفواه المصريين بل بدأ الآن في ضخ أموالهم في شرايين الاحتلال. إنها صفقة خيانة وطنية بغطاء قانوني، تحوّل مصر إلى شريك في تمويل آلة الحرب الإسرائيلية.”
وأضاف قنديل أن تبريرات الحكومة حول “الاستفادة من تسييل الغاز” مجرد ستار إعلامي، فالحقيقة أن "دور مصر في السوق بات وسيطًا تابعًا لا منتجًا مستقلاً، تمامًا كما أراد نتنياهو وترامب منذ البداية".
وشدد على أن الصفقة "هزيمة سياسية مقنّعة"، لأنها تجعل القاهرة رهينة لحلف الطاقة الإسرائيلي – الأمريكي، وتمنح تل أبيب نفوذًا اقتصاديًا غير مسبوق في البحر المتوسط.
“منفعة عامة لإسرائيل.. خسارة قومية لمصر”
توضح الوثائق المنشورة على موقع شركة نيو مِد إنرجي الإسرائيلية أن الصفقة أُبرمت تحت إشراف مباشر من نتنياهو ووزير طاقته، وأن الشركات الإسرائيلية تمثل أكثر من 60% من حصة الإنتاج، ما يعني أن 21 مليار دولار على الأقل ستذهب فعلًا إلى الاقتصاد الإسرائيلي، بخلاف العوائد الضريبية.
أما تبريرات الحكومة المصرية حول أن الأموال “تذهب إلى شركة شيفرون الأميركية” فهي محض تضليل، لأن حصة الشركة الأمريكية لا تتجاوز 40% من المشروع.
كل ذلك يجعل الصفقة سياسية بامتياز، إذ جاءت بعد وساطات أمريكية مكثفة سعت لتدفئة العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في إطار هندسة جديدة لمنطقة الغاز في شرق المتوسط.
النهاية: من خط “العروبة” إلى خط “التبعية”
صفقة الغاز الأخيرة تلخّص مأساة مصر تحت حكم الانقلاب: سياسة خارجية مرتهنة، واقتصاد مرهقٍ يُدار بالديون، وقرارات إستراتيجية تُتخذ لخدمة العدو لا الوطن.
فبينما كان المصريون يوماً يرفعون شعار "لا تصدير للغاز للكيان الصهيوني"، أصبحت حكومتهم الآن تستورد الغاز منه وتموّله، بل وتسوّقه كـ"إنجاز وطني".
الحقيقة المؤلمة أن حكومة السيسي لم تكتفِ بتجويع المصريين، بل جعلتهم شركاء في إنعاش خزانة الاحتلال، لتتحول صفقة الغاز من اتفاق تجاري إلى وثيقة عارٍ تاريخية قد لا تُمحى من ذاكرة الأمة.

