لم يحتج المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، جون برينان، إلى كثير من البلاغة كي يسرد جانبًا “حميميًّا” من سنواته في القاهرة: جلسات الحشيش مع الأصدقاء، وطقوس اللهو في الأزقة القديمة، وتعلّم العربية على مهل، بين دخان القنّب وضجيج خان الخليلي.

 

الرجل لم يكن يوجّه اتهامًا لمصر ولا يسخر من ثقافتها؛ على العكس، بدا وكأنه يصف تجربة وجدانية صنعت لغته ومشاهداته، وكأنه يقول لنا: “أردت أن أسمع مصر كما يتكلمها الناس، لا كما تُقرأ في السفارات.”

 

لكن ما كان مريحًا لبريـنان صار عبئًا على الإعلام المصري، فالمخابراتي الذي يفترض أنه يطارد الأنفاس والجدران والهواتف، بدا في تلك اللحظة أقرب إلى سائح مسالم يعثر في الحشيش على أسرع طريق للدارجة المصرية.

 

عمرو أديب… حين تتحول الوطنية إلى رقابة بصرية

 

لم يكن ردّ عمرو أديب على قدر خفة دم المصريين، ولا على قدر سلاسة كلام الرجل الأمريكي. صرخ– مجازًا– متسائلًا: هو ما لاقاش في مصر غير الحشيش؟! إحنا بلد المتحف!”

 

المفارقة أن المتحف ذاته لم يذكره برينان. ذكر الأسواق، والأصدقاء، واللهجة. لكن أديب، بإخلاص محيّر، رفض أن يرى في كلامه إلا إساءة، ربما لأنه يرى مصر كما تُرسم في غرف الدعاية، لا كما تُعاش في أحيائها.

 

والمؤسف أنه– غالبًا– لم يشاهد المقابلة كاملة، بل اكتفى بمقطع تيك توك يخوض فيه ملايين الناس بسخرية لاذعة، نازعين سلاح الجدية الذي حمله أديب بلا مناسبة.

 

رئيس الـCIA  يحشش في قهوة الفيشاوي

 

بينما انشغل المذيع بالإنكار، انطلق المواطنون ينسجون التعليقات اللاذعة:

 

رئيس CIA شرب حشيش في قهوة الفيشاوي… تحيا مصر!”

 

في مخيال الناس، المشهد انتصار ساخر: حتى عين العالم التي لا تنام نامت فوق سجائر البفرة المصرية. ورغم أن برينان بدا لطيفًا في المقابلة، يدرك الجميع أن تحت تلك اللطافة أجهزة كاملة عملها الأذى. ولعل السخرية كانت الطريقة الوحيدة لجعل الوحش أقل رعبًا.

 

برينان لم يقل إنه شرب من ماء النيل، ولم يُغمَد في الكشري، لكنه قال إنه دخّن الحشيش. وفي لغة المصريين: من يدخل “الضباب” كان ضيفًا حقيقيًا، لا مارًّا عابرًا.

 

هل نكذّب رجل الاستخبارات فقط لأنه… أمريكي؟

 

لا أحد يطالب بتقديس كلام رجل مخابرات. لكن هل يصبح كل ما يقوله باطلًا فقط لأنه جنسية واشنطن؟

 

الحقيقة أن عمرو أديب لم يغضبه الحشيش بقدر ما أغضبته الصورة غير الرسمية لمصر. أراد نسخة مُعقّمة، بلا عشوائيات، بلا ازدحام، بلا دخان. لكن الواقع– كما يعرفه كل مواطن– لا يشبه خطابات التجميل الإعلامي.

 

والطريف أن تقارير المؤسسات الرسمية نفسها تؤكد ما هو أقسى بكثير:

 

  • 6.4 مليون متعاطٍ للمخدرات في مصر (2024)

 

  • 2.7 مليون مصاب بإدمان فعلي يحتاج علاجًا عاجلًا.

 

  • 4200 وفاة سنويًا بجرعات زائدة (تقرير الصحة العالمية 2023).

 

فهل كان على برينان أن يتلو هذه الأرقام بدلًا من الذكريات؟

 

السينما المصرية.. أرشيف طويل لإدمان مشرعن

 

لو أن أديب لا يحب التقارير، فليذهب إلى السينما التي يفاخر بها دائمًا. سيجد أن المخدرات ليست مجرد موضوع، بل “بطلٍ” ثابت:

 

  • الشيخ حسني في “الكيت كات” يتعاطى ويُحبّه الجمهور.

 

  • جملة “أنا شربت حشيش يا سعاد!” من فيلم “كراكون في الشارع” صارت أيقونة.

 

  • عشرات الكوميديات التي حولت المخدرات إلى نكتة يومية، في مرايا ترى مصر كما هي لا كما يتمنى الإعلام.

 

ليس عبثًا أن يغزو الحشيش الأفلام. إنه انعكاس شارع، وطقس اجتماعي، ومهرب من ضيق الحياة ومظالم السلطة وثقل الأيام.

 

الصحف نفسها تكشف ما يحاول الإعلام تجاهله

 

يكفي أن يتصفح المرء المواقع الإخبارية المصرية ليعرف أن ما قاله برينان هو مجرد ظلّ باهت لصورة أكبر بكثير:

 

  • ضبطيات يومية.

 

  • حوادث قتل تحت تأثير المخدر.

 

  • عصابات وأحياء كاملة تعيش على تجارة السموم.

 

  • وشباب يضيع بين الفقر والإحباط والانسداد السياسي.

 

الحشيش ليس “إهانة وطنية” كما صوّره أديب، بل جزء من واقع اجتماعي يعرفه كل مواطن إلا الإعلام الرسمي.

 

السادات من أول سحبة!

 

أما على مستوى النكتة المصرية، التعبير الأعمق عن مزاج الشارع المصري، فلا تكفّ مصر عن التنكيت على موضوعة الحشيش والمخدرات. إن واحدة من بين أكثرها طرافة تتعلق بالرئيس الراحل أنور السادات عندما راح يتمشى وحيداً، من دون مرافقة، على الشاطئ الشمالي لمصر، إلى أن وصل إلى خيمة بعيدة ومنعزلة على الشاطئ، وكان فيها رجل يدخن الشيشة، ورائحة الحشيش تملأ المكان، استضافه الرجل، ولم يكن يعرف من يكون. جلس السادات وطلب منه أن يشاركه الشيشة، فأعطاه. سحب الرئيس أول سحبة، فسأله الرجل: «أنت شكلك نظيف قوي يا بيه.. أنت بتشتغل إيه؟»

 

فرد السادات: «أنا رئيس الجمهورية».

 

فقال الرجل: «كده على طول؟ من أول سحبة؟!».

 

لو أن عمرو أديب استمع جيداً إلى نكات المصريين، دعك من إحصاءات المنظمات والمؤسسات المعنية، لكان تناول رجل الـ «سي آي أي» بحلقة تهكمية ممتعة للغاية.

 

لكن عمرو أديب تلفزيون، وقد قال مرة مواطن مصري فقير بلا حدود: «أشوف مصر عالتلفزيون ألاقيها فيينا، أنزل الشارع ألاقيها بنت عم الصومال».

 

خلاصة ساخرة لواقع لا يحتمل التجميل

 

المفارقة أن قضية “الحشيش” كشفت فجوة واسعة:

 

  • رجل مخابرات أجنبي يتحدث بودّ عن بلد عاش فيه.

 

  • ومذيع مصري يوبّخه لأنه لم يردد النشيد الوطني أولًا.

 

تبدو الحكاية رمزية تمامًا: مصر الحقيقية– بتناقضاتها وأزماتها وروحها الساخرة– ليست تلك التي يريد الإعلام الرسمي عرضها، ولا تلك التي تُبنى لها المتاحف الفخمة كغطاء.
أما المصريون، فقد اختصروا المشهد كله في تعليق واحد:

 

"رئيس الـCIA  شرب حشيش عند الفيشاوي.. وعمرو أديب لسه بيشرح له يعني إيه وطنية!!

 

هكذا تُهزَم الجدية المفرطة.. أمام ضحكة مصرية صافية.

 

أما هيبة مصر، فقد ذهبت بطريقة غامضة أو غير متوقعة، وكأن غرابًا خطفها وطار بها "خدها الغراب وطار"، فلا تعرف أين ذهب ولا كيف تستعيده؟