وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

هناك فرقٌ بين رفض تهجير شعب من أرضه بإطلاق ورفض تهجيره إلى مكان معين وفي توقيت معين، الموقف الأول أخلاقي ومبدأي بامتياز، والثاني براغماتي محكوم بحسابات تتعلق بالربح والخسارة، ويصبح انتهازيًّا وخيانيًّا في حالة ما إذا الكلام عن شعب شقيق يدافع عن قضية هي قضية كل الشعوب الشقيقة له.

 

في الموقف الأول، تتألّق بسالة أخلاقية مبدئية في أداء دول مثل جنوب أفريقيا وكولومبيا وفنزويلا وإيران، دفاعًا عن حقوق الشعب الفلسطيني، حقه في البقاء على أرضه، وحقه في الحلم والعمل على تحريرها، وبالتالي، حقه في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، بما فيها وفي مقدّمتها الكفاح المسلح، أما الموقف فيتجسّد في مقاربة الجنرال عبد الفتاح السيسي من موضوع التهجير، والذي شهد تحولات جذرية من بدايات العدوان وصولًا إلى انفجار بالونة دونالد ترامب، حاملة مشروع "ريفيرا غزة" الذي يستلزم، بحسب تصوره الاستعماري المنحط، تهجير الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن وأماكن أخرى، وهو التصوّر الذي ردّت عليه القاهرة بشعار "لا للتهجير" الذي صار أحد تابوهات الحياة المصرية، بحيث يمكن الفتك بمن يشكّك في مصداقيته أو حتى يناقشه، فهل يمكن هنا اعتبار "لا للتهجير" موقفًا مبدئيًّا وأخلاقيًّا وعروبيًّا حقًّا".

 

أول طرح لمسألة تهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء المصرية كان بعد عشرة أيام من "طوفان الأقصى"، وفي ذلك الوقت خرج السيسي في مؤتمر صحافي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي زار القاهرة، لجس النبض فيما يتعلق بالتهجير. قال السيسي بالحرف: " قلت هذا الأمر لفخامة المستشار وأقوله في العلن، إذا كانت هناك فكرة للتهجير توجد صحراء النقب. ممكن قوي يتم نقل الفلسطينيين حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيره في القطاع، ثم بعد ذلك تبقى ترجعهم إذا شاءت... لكن نقلهم إلى مصر... العملية العسكرية دي ممكن تستمر سنوات وهي عملية فضفاضة... أقول لسه ما خلصناش الإرهاب. لسه ما انتهيناش من المهمّة".

 

يقود تفكيك هذه الفقرة إلى عدة خلاصات منطقية، أولها: ليس لدي عبد الفتاح السيسي ممانعة في تهجير الشعب الفلسطيني من غزّة، شريطة ألا يكون هذا التهجير إلى مصر.

 

ثانيًا: لا ينكر على الكيان الصهيوني حقه في تصفية المقاومة الفلسطينية، أي أنه لا يمانع في تصفية هده المقاومة (حماس والجهاد الإسلامي وغيره في القطاع).

 

ثالثًا: هذا موقف براغماتي انتهازي لا يمكن لعاقل أن يصنفه عروبيًّا أو حتى إنسانيًّا، كونه ينظر إلى غزة مسألة أمنية، بالنسبة للاحتلال الصهيوني، وبالنسبة له أيضًا كما يتبدى من تعبيره عن خوفه من المخاطر الأمنية للمطلوب تهجيرهم إلى سيناء. وقد ظلّ هذا الموقف حاكمًا حركة النظام المصري عامين من العدوان، من خلال رفض تهجير الفلسطينيين، لأنها مسألة تعرّض الأمن القومي المصري للتهديد. وللإنصاف، لم يكن هذا موقف القاهرة فقط من العدوان على غزّة، ومقاومة هذا العدوان، بل موقف كل الأنظمة العربية، تقريبًا، باستثناء الحالتين اليمنية واللبنانية، حتى استشهد زعيم المقاومة وصاحب مبدأ "وحدة الساحات" حسن نصر الله.

 

في أرشيف المواقف الرسمية العربية، ومنها الموقف المصري، تجد إنكارًا واضحًا لحق المقاومة الفلسطينية في مهاجمة العدو الذي يحتل أرضها ويقتل شعبها، وتجد إدانة بأوضح العبارات لعملية طوفان الأقصى، ثم تجد كذلك تكفيرًا لهذه المقاومة ومحاولة الفصل بينها وبين الشعب الفلسطيني، على نحو ما فعل وزير الخارجية المصرية السابق سامح شكري في منتدى الأمن في ميونخ بعد أسابيع من الطوفان وتحدث عن المقاومة الفلسطينية، قائلًا: "حركة حماس من خارج الإجماع الفلسطيني والاعتراف الإسرائيلي، وتجب محاسبة من عمل على تعزيز قوة الحركة في غزّة وتمويلها".

 

الشاهد كذلك أن فكرة التعاطي مع الموضوع الفلسطيني من منطلقات صيانة الأمن القومي لهذه الدولة العربية أو تلك بعيدة كل البعد عن الأخلاقية، وتتعارض مع اعتبارات الهوية المشتركة والمصير الواحد، تلك الاعتبارات التي كانت الدافع الوحيد لإنشاء كيان اسمه جامعة الدول العربية، أقر في أول انعقاد له قبل النكبة أن قضية فلسطين قلب القضايا القومية، باعتبارها قطرًا لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية، مع ما يستلزمه ذلك من ضرورة الوقوف أمام الصهيونية، باعتبارها خطرًا لا يداهم فلسطين وحسب، وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية، ومن ثم اعتبار أي سياسة عدوانية موجّهة ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أميركا وبريطانيا سياسة عدوانية تجاه كل دول الجامعة.

 

أما مقاربات الدول العربية منفردة ومجتمعة من مسألة غزّة وقضية فلسطين حاليًّا، فهي تتأسس على المصلحة والمنفعة، تناضل من أجل حلها، ليس لكي يسترد الشعب الفلسطيني أرضه، بل لكي ينفتح الطريق إلى التطبيع الشامل والتعاون الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وليس من منطلق الإيمان بالشراكة الكاملة مع هذه الشعب في آلامه وأحلامه، وإنما لدرء خطر تهجيره إليها وتهديده لأمنها السياسي والاقتصادي. في النهاية لا يمكن الحديث عن موقف أخلاقي أو بطولي من أي طرف عربي مع الشعب الفلسطيني، بينما لم تجرؤ هذه الدولة أو تلك على نشر برقية عزاء في استشهاد أبطال الشعب، رموز المقاومة، إسماعيل هنية ويحيى السنوار وحسن نصر الله.

 

والحال كذلك، أستغرب كثيرًا أن يرى المفكر والمثقف الكبير محمد سليم العوّا أن شعار "لا للتهجير" يكفي لإسباغ جدارة أخلاقية وعروبية، واعتبار من يردده من أولي العزم الذي تحملوا ما لم يتحمله بشر خلال عامين، ذلك أن تقدير الموقف لا ينبني على لقطةٍ في نهاية الموضوع، إذ لا يصح أن نقفز على واحد واثنين وثلاثة وأربعة، ونذهب مباشرة إلى رقم عشرة ونعتبره كل شيء.

 

ملحوظة: يمكنك أن تختلف مع الدكتور العوا، وترفض آراءه، من دون أن تكون بذيئًا ومنكرًا قيمته الفكرية، ورصيده الهائل في ملف الفكر القومي الإسلامي.