في صباحٍ حزين من يوم 13 أكتوبر الماضي، كانت قرية سلام التابعة لمركز منقباد بمحافظة أسيوط على موعدٍ مع واحدة من أكثر الحوادث مأساوية في الصعيد، حين سقط تروسيكل يقل 15 طفلًا في مصرف حواس، أثناء توجههم إلى مدرسة أحمد عرابي الابتدائية بقرية منقباد المركزية.
الصياد ميخائيل عياد، الذي تصادف مروره وقت الحادث، لم يتردد لحظة واحدة وقفز إلى المياه لإنقاذ الأطفال. نجح في إخراج 14 منهم، لكن القدر كان أسرع، إذ توفي سبعة متأثرين بتشبع رئاتهم بالمياه نتيجة بقائهم لفترة طويلة داخل المصرف، قبل وصول فرق الإنقاذ والإسعاف.
ورغم الحزن العميق الذي خيّم على القرية، تحوّل عياد إلى بطل شعبي في أعين الأهالي، لتبادر المحافظة بتكريمه رسميًا بوصفه “نموذجًا إيجابيًا لترسيخ معاني الانتماء والإخلاص”. إلا أن هذا التكريم – كما يرى الأهالي – لم يُترجم إلى حلول حقيقية لمشكلات القرية، وفي مقدمتها المصرف المكشوف، وغياب المواصلات العامة، وانعدام المدارس الأساسية التي تُجنب الأطفال الانتقال لمسافات طويلة محفوفة بالمخاطر.
وعود المسؤولين.. غائبة كالعادة
بعد الحادث بيومين، زار محافظ أسيوط هشام أبو النصر الأطفال المصابين في المستشفى الجامعي، ووعد بتقديم دعم نفسي ومادي للأسر المنكوبة. لكن، وفق شهادات الأهالي، لم يتلقَّ أحد منهم أي مساعدة أو دعم، لا من التضامن الاجتماعي ولا من أي جهة أخرى.
يقول إبراهيم حمدان، والد الطفلة جنى، التي فقدت أربعة من أقاربها في الحادث: “العيال لحد النهارده مش قادرة تروح المدرسة، خايفين من الطريق ومن المصرف اللي بلع أصحابهم”.
شهود العيان يؤكدون أن الحادث لم يكن الأول، إذ سبق أن سقطت وسائل نقل أخرى في المصرف ذاته، الذي تحوّل من ترعة زراعية إلى مجرى صرفٍ صحي، بعد أن اضطر الأهالي إلى تصريف مياه منازلهم فيه، في ظل غياب شبكة الصرف الصحي عن المنطقة.
معدة ألمانية «نائمة» منذ عشر سنوات
بعد أسبوع من الكارثة، أصدرت المحافظة بيانًا تفاخر فيه بتشغيل معدة ألمانية حديثة لإزالة النباتات المائية من المجاري المائية “ضمن منظومة بيئية واقتصادية متكاملة”، في حين تجاهل البيان ذكر حادث الأطفال أو المصرف المكشوف.
المفارقة أن المحافظة كشفت أن المعدة موجودة لديها منذ أكثر من عشر سنوات، لكنها لم تُستخدم طوال هذه المدة “لعدم توافر المعدات المساندة”، وهو ما أثار استهجان الأهالي الذين يرون أن الإهمال الإداري كان كفيلاً بتجنب المأساة لو تم استغلال تلك المعدات منذ البداية.
منقباد: منطقة بلا خدمات أساسية
تفتقر القرى التابعة لمركز منقباد، مثل سلام وصليبة العُدر، إلى أبسط الخدمات الأساسية. لا صرف صحي، ولا وحدة صحية، ولا مدارس كافية، ولا حتى طرق ممهدة.
يقول النائب البرلماني إبراهيم نظير: “القرى دي بتعاني من غياب تام للخدمات، حتى التليفون الأرضي مش موجود من سنين، والطريق اللي بيخدمهم كله حفر وتآكل، وكل مرة نطلب رصف الطريق يقولوا استنوا لما نعمل الصرف أو المياه، وفي الآخر مفيش حاجة بتحصل”.
في صليبة العُدر وحدها يعيش أكثر من عشرة آلاف مواطن بلا مدرسة أو وحدة صحية أو مركز شباب. أقرب وحدة صحية تبعد سبعة كيلومترات وتعمل ساعتين فقط يوميًا، فيما يضطر الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى مدارس أربع قرى مجاورة، أقربها تبعد أربعة كيلومترات، عبر طرق وعرة وخطرة.
تكاتف شعبي.. وقرارات تنتظر التنفيذ
لم ينتظر الأهالي وعود الحكومة، بعد الحادث مباشرة، تبرع أحد أبناء قرية بهيج المجاورة بقطعة أرض لإنشاء مدرسة تخدم أطفال المنطقة، في مبادرة أهلية حملت شعار “مش هنستنى عيال تاني تموت”.
المحافظ رحّب بالمبادرة ووجّه بـ«سرعة دراسة المقترح»، لكنه لم يعلن عن أي خطوة عملية لتنفيذه، حتى بعد لقائه وزير التعليم الذي زار المحافظة لاحقًا لتفقد المدارس الجديدة، دون أن يُدرج مدرسة «صليبة العُدر» ضمن خطط التنفيذ أو حتى يتوقف عند موقع الحادث المأساوي.
سائق إنساني.. متهم ثم مفرج عنه
لم تسلم المأساة من البيروقراطية. فقد أمرت النيابة بحبس سائق التروسيكل عبد الله منصور أربعة أيام على ذمة التحقيق، رغم شهادة الأهالي بأنه فقد السيطرة على المركبة بسبب انحراف أتوبيس عن مساره.
يقول إبراهيم حمدان: “السواق كان بيشيل العيال ببلاش، بيوديهم المدرسة مع أولاده. في الحادث فقد ابن أخوه وبنت عمه، واتحبس وهو مش عارف عياله عايشين ولا ماتوا”. واحقًا، أُفرج عن السائق بعد تصالح أسر الضحايا معه.
تاريخ من الاعتماد على الذات
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحرك فيها أهالي منقباد بالجهود الذاتية. فحتى عام 2013 لم يكن في قرية سلام سوى مسجد واحد، قبل أن يتبرع أحد أبنائها الأقباط بقطعة أرض لبناء مسجد ثانٍ. ورغم أن القرية هي مسقط رأس البابا شنودة الثالث، فإنها لا تضم كنيسة واحدة حتى اليوم، رغم المطالبات المتكررة منذ سنوات.
هذا التاريخ الطويل من العمل الأهلي والتكافل جعل الأهالي أكثر تصميمًا على إصلاح واقعهم بأيديهم. وبعد الحادث، جمعوا التبرعات وأقاموا سورًا حول المصرف الذي ابتلع أبناءهم، مؤكدين: “مش هنستنى عيال تانية تموت”.

