د. محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع
يرى سياسيون ومحللون عديدون في المنطقة أنّ من الصعب توقع استئناف الحرب الإسرائيلية على غزّة، بخاصة بعد مؤتمر شرم الشيخ، والحضور الدولي الكبير الذي شهده، والاستثمار السياسي الهائل الذي بذله الرئيس الأميركي ترامب لوقف إطلاق النار بوصفه إنجازًا تاريخيًّا له. تُضاف إلى ذلك متابعة المبعوثين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر ما بعد الحرب، فضلًا عن غياب المبرّرات الحقيقية لدى نتنياهو لاستكمال حربه على القطاع.
مع ذلك، هناك شكوك حقيقية وعميقة بشأن مآلات "اليوم التالي" للحرب ومستقبل غزّة، فالتصدّعات لا تزال كبيرة، وربما تفوق في حجمها خطة البنود الـ21 التي أعلنها ترامب نفسُه، ما قد يعني عودة حالة من عدم الاستقرار العسكري والأمني، وربما مرحلة أطول من بقاء الجيش الإسرائيلي في مساحةٍ واسعةٍ من القطاع، نتيجة غياب التوافق على بنود المرحلة المقبلة أو تعطّلها لأحد الأسباب الكثيرة المحتملة.
أحد أهم العوامل المؤثرة في صياغة المرحلة المقبلة مستقبل حركة حماس في القطاع، فهذه المسألة، إذا جرى التوافق عليها فلسطينيًّا وإقليميًّا وإسرائيليًّا ودوليًّا، ستكون مفتاحًا أساسيًّا لبناء تصوّر أكثر استقرارًا وتوافقية لـ"اليوم التالي" للحرب. وقد أظهرت تجربة الأسابيع الماضية أن الأذرع السياسية والأمنية والإدارية للحركة عادت إلى العمل مباشرةً بعد وقف إطلاق النار، وبصورة فاعلة، ما أثبت امتلاكها قواعد اجتماعية قوية وعميقة في القطاع، على الرغم من وجود جيوبٍ من المليشيات المسلحة التي تشير الصحف الإسرائيلية اليوم إلى ارتباطها بإسرائيل. وتشير التقارير إلى أسماء، مثل أشرف المنسي في بيت لاهيا، وحسام أبو شهاب في شرق خان يونس، وياسر أبو شباب في شرق رفح، وهي مجموعات لن تجد "حماس"، لما تمتلكه من قاعدة شعبية وأيديولوجية، صعوبة كبيرة في التخلص منها إذا تُركت وحدها خلال المرحلة المقبلة.
هنالك مساران رئيسان محتملان لمستقبل الحركة في القطاع: يتمثّل الأول في الرغبة الإسرائيلية، وربما الإقليمية، في إقصاء "حماس" بالكامل عن أي وجود أو تمثيل أو دور سياسي، والعمل على إخراج من تبقّوا من قياداتها إلى خارج غزّة، وإقامة نظام جديد خالٍ من أي حضور عسكري أو سياسي للحركة. غير أن مثل هذا الطرح يؤسس لمرحلة "مفخّخة" منذ بدايتها، إذ ليست الحركة مجرّد حكومة أو جناح عسكري، بل تمثل جذورًا اجتماعية وقواعد شعبية واسعة، وهي القوة السياسية الأكثر نفوذًا التي شكّلت الحكومة في غزّة سنوات. وإذا لم تجد لنفسها مكانًا في ترتيبات المرحلة المقبلة سياسيًّا، فستنشأ معضلة بنيوية كبيرة يصعب احتواؤها.
ويقوم المسار الثاني على أن تتخلّى "حماس" فعليًّا عن الحكم والسيطرة العسكرية والسياسية، وأن تسلّم ما تبقى من سلاحها، لكنها تحافظ على وجودها السياسي والاجتماعي والثقافي من خلال إطار حزبي جديد. وقد كان هذا الطرح متداولًا في الأوساط الدبلوماسية العربية في أثناء إعداد الخطة العربية لإعمار غزّة (رفضها البيت الأبيض آنذاك)، ويقوم على فكرة تحول "حماس" إلى حزب سياسي مدني، وربما عبر إعادة إحياء حزب الخلاص الإسلامي في غزّة (تأسّس عام 1996، وكان يُعد الجناح السياسي للحركة قبل أن يتجمّد لاحقًا). وتفترض هذه الرؤية أن أفضل طريقة للتعامل مع "حماس" إيجاد مساحات آمنة جديدة لقياداتها وأعضائها وقواعدها الاجتماعية، ومنحها تمثيلًا سياسيًّا في المرحلة المقبلة، لأنّ اختفاءها المفاجئ أو تلاشيها ببساطة مع نهاية الحرب أمر غير واقعي، ولا يمكن فرضُه لا بقرار دولي، ولا بضغط إقليمي أو محلي.
التوصل إلى تفاهماتٍ مع الحركة حول مستقبلها في القطاع، وربما ضمن المعادلة الفلسطينية والإقليمية الأوسع، هو الخيار العقلاني والواقعي، وهو المفتاح الحقيقي للمرحلة المقبلة. وهذا لا يعني أن المشكلات الأخرى ستزول؛ فإسرائيل لن تتخلى عن السيطرة الكاملة على القطاع، ولن تنسحب انسحابًا شاملًا، وضمانات ترامب ستتآكل بعد تسليم "حماس" ما تبقى من جثث أسرى، ونتنياهو لن يقبل بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، كما ستبرُز إشكالات تتعلق بتعريف اللجنة التكنوقراطية وآلية التوافق عليها.
تمثل كل تلك العناصر ديناميكيات أساسية في المشهد المقبل، لكن مستقبل "حماس" والتفاهم بشأنه سيبقى المفتاح الأهمّ لفهم شكل المرحلة المقبلة.