كانت "العدالة الاجتماعية"، واحدة من الشعارات التي رفعها ثوار يناير في 2011، (عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية)، لأنهم كانوا يؤمنون أن تطبيق هذه العدالة والمساواة بين أبناء الشعب الواحد دون تمييز طبقي، أو اختيار يشوبه المجاملة والواسطة هو الضمانة الحقيقية لحصول كل مصري على حقه من غير محسوبية تهدر معايير التفوق والكفاءة عند شغل الوظائف، كان ذلك هو أمل الجميع، أمل ذلك الشباب الذي خرج بالملايين، قبل أن يستفيق على كابوس الانقلاب في 3 يوليو 2013.

 

فقد جرت العادة داخل الجامعات وفي الوزارات المهمة خصوصًا على اعتماد مبدأ "التوريث" و"الواسطة"، مما أدى إلى إهدار أحلام كثير من الشباب في الحصول على حقوقهم وفق معيار العدل والمساواة، ودفع اليأس ببعضهم إلى الهجرة بلا عودة لتحقيق آماله وأحلامه في "بلاد الغربة"، بينما هناك من دخل في نوبة من الاكتئاب الذي دفعه في النهاية إلى التخلص من حياته، نتيجة غياب هذه العدالة.

 

عبدالحميد شتا نموذجًا

 

لا زال كثير من المصريين يتذكر بألم، ذلك الشاب القروي البسيط، عبدالحميد شتا، الذي تخرج بتفوق من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والذي انتحر ملقيًا بنفسه من أعلى كوبرى قصر النيل فى 13 يوليو عام 2003 بعدما تقدم لوظيفة ملحق تجاري، ونجح في كل الاختبارات التحريرية والشفوية، وحاز على المركز الأول على منافسيه الـ43، لكن تم استبعاده من التعيين، لكونه "غير لائق اجتماعيًا".

 

عبدالحميد المولود في أسرة بسيطة من قرية ميت الفرماوي بمحافظة الدقهلية كان يكافح لتحقيق حلمه المشروع في الالنحاق للعمل بوزارة الخارجية، واستطاع أن ينهي دراسته بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، ونشرت له العديد من الأبحاث، وبدأ ينتظم في الدراسات العليا بالكلية، وعمل بكل جد لتقوية لغته الإنجليزية حتى يكون مؤهلاً للعمل بالسلك الدبلوماسي كما كان يحلم.

 

لم يشفع كل ذلك للشاب المكافح في أن يشغل الوظيفة التي تقدم لها، على الرغم من أنه كان بشهادة الجميع متفوقًا ويستحقها عن جدارة بالمعايير الموضوعية، مشكلته الوحيدة أنه لم يكن "لائق اجتماعيًا"، مما يعني أنه عير مؤهل لشغل وظيفة مرموقة في بلد لا صوت يعلو فيها على صوت "المحسوبية"، فاختار الشاب أن ينهي حياته بيده، وألقى نفسه من فوق كوبري قصر النيل.

 

لذا، فإن شعار "العدالة الاجتماعية" الذي نادى به ثوار يناير آملين أن يسود في مصر كان سيضمن للمتفوقين مثل عبدالحميد نيل حقوقهم المشروعة، لكن الانقلاب جاء ليقضي على تلك الآمال في رؤية دولة تطبق "العدالة الاجتماعية" على أبنائها، ولا تميز بينهم على أساس الفقر والغنى، بعد أن كرس التمييز الطبقي بامتياز.

 

ابن عامل النظافة

 

ففي عام 2015، أطلق وزير العدل المستشار محفوظ صابر آنذاك، تصريحًا عبر فيه عن رفضه تقلُّد أبناء عمال النظافة لمناصب قضائية، دون تطبيق مبدأ التفوق والكفاءة في التعيينات، بدعوى أن القاضي لا بد أن يكون قد نشأ في وسط بيئي واجتماعي مناسب لهذا العمل، وأن هناك وظائف أخرى تناسب ابن "عامل النظافة"، لأن "القضاء لديه شموخ وهيبة مختلفة".

 

وأثارت تصريحاته آنذاك غضبًا مجتمعيًا على منصات التواصل الاجتماعي، وسط مطالبات بضرورة إقالته، بعد اتهامه بالعنصرية والطائفية والتمييز وإثارة الحقد الطبقي والفوارق الاجتماعية بين أبناء الشعب، وانتهت الحملة باستقالة الوزير نتيجة الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة آنذاك.

 

انتهت الأزمة بإقالته، لكن المؤكد أن عقلية الوزير هي التي تحكم الاختيارات في مصر، وأنه لا مجال للعدالة في بلد يهدر فيه القانون، ولا يطبق إلا على من لا ظهر له ولا سند.

 

أما والحال هكذا، سيبقى الحلم بالعمل بالسلك الدبلوماسي أو الالتحاق بسلك القضاء بالنسبة لكثير من المصريين بعيد المنال، حتى وإن جاءت التصريحات الرسمية على خلاف ذلك تحفز التفوق وتدعم الكفاءات، كما جاء على لسان بدر عبدالعاطي، وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين في الخارج في حثه الشباب المصري على التقدم لاختبارات وزارة الخارجية والانضمام إلى السلك الدبلوماسي، بدعوى أن الوزارة تعتمد على الكفاءة والموضوعية في اختيار كوادرها، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى.