في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تتصاعد الضغوط لفرض تهجير جماعي على سكانه، في محاولة لتحقيق حلم اليمين الإسرائيلي المتطرف بإفراغ القطاع من أهله. وبينما يواجه الفلسطينيون هذا المخطط بصمود استثنائي، تبرز مواقف عربية رافضة لاستقبال المهجرين، ما يجعل سيناريو التهجير تحديًا إقليميًا يتجاوز حدود غزة.
تصريحات رسمية تكشف النوايا
لم تعد نوايا الاحتلال الإسرائيلي بشأن تهجير سكان غزة مجرد تكهنات، بل باتت تصريحات وزراء في الحكومة الإسرائيلية تؤكدها علنًا. ففي 21 يناير 2025، دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى "تشجيع الهجرة الجماعية"، معتبرًا أن من يرفض العيش تحت الحكم الإسرائيلي "يمكنه المغادرة إلى دول أخرى".
وفي السادس من مايو، هدد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بـ"تدمير غزة بالكامل خلال أشهر"، مشددًا على أن "لا أمن مع وجود أكثر من مليوني عربي هناك". أما وزير الطاقة إيلي كوهين، فأكد في 12 مايو أن "خطة طرد الفلسطينيين لا تزال مطروحة"، مشيرًا إلى متابعة مقترح "الهجرة الطوعية" الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.، وفقًا لـ"الجزيرة.نت".
هذه التصريحات تُترجم ميدانيًا إلى قصف ممنهج وتدمير للبنية التحتية، ما يدفع السكان للنزوح المتكرر. ووفق تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) في 13 سبتمبر، فقد نزح نحو 70 ألف شخص من شمال غزة إلى الجنوب خلال أسبوعين فقط.
القاهرة: رفض قاطع واستعداد للطوارئ
في مواجهة هذه الضغوط، جددت مصر موقفها الرافض لاستقبال المهجرين الفلسطينيين. وزعم رئيس وزراء حكومة السيسي، الدكتور مصطفى مدبولي في 16 سبتمبر إن الدولة المصرية "لديها خطط واضحة لمواجهة أي ضغط على الحدود"، مؤكدًا استعداد الوزارات لتوفير الاحتياجات الإنسانية للفلسطينيين دون السماح بتهجيرهم.
أدوات التهجير: من القصف إلى التجويع
تقرير سابق لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" وثّق استخدام إسرائيل لأساليب ممنهجة لصناعة النزوح، من بينها القصف العشوائي، تدمير المستشفيات والمدارس، قطع المياه والكهرباء، ومنع دخول المساعدات. وأكدت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ووكالة الأونروا أن أوامر الإخلاء والقصف العنيف هما السبب المباشر للنزوح، فيما يُستخدم الجانب الإغاثي كأداة ضغط إضافية.
شهادات وتحليلات: التهجير كخيار "إنساني" زائف
يرى النائب المصري السابق عادل راشد أن التهجير يُقدَّم سياسيًا كخيار إنساني مقارنة بالإبادة، رغم كونه جزءًا من مخطط مسبق. ويشير الباحث الإغاثي عثمان الصمادي إلى استهداف الاحتلال لنقاط توزيع المساعدات، ومنع دخول الخيام والمستلزمات الطبية منذ أشهر، في محاولة لدفع السكان نحو الجنوب، حيث تُطرح فكرة "مدينة غزة الإنسانية" في رفح.
صمود فلسطيني وممانعة إقليمية
المحلل السياسي أحمد الحيلة يؤكد أن إسرائيل تعتمد على "هندسة التجويع" والقصف المكثف لفرض التهجير، لكن الفلسطينيين يواجهون ذلك بالتمسك بالأرض والتنقل داخل الأحياء بدل النزوح جنوبًا. ويضيف أن الموقف المصري والأردني الرافض، إلى جانب عزلة إسرائيل الدولية، يضعف فرص نجاح المخطط، فيما تواصل المقاومة استنزاف الاحتلال على الأرض.
ويختم الحيلة بأن "شهادات النازحين أنفسهم تبقى الدليل الأبلغ على حجم الجريمة المستمرة"، في وقت تتطلب فيه مواجهة التهجير أكثر من مجرد صمود، بل تنسيقًا إقليميًا ودوليًا لوقف الكارثة الإنسانية.
رغم تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يواصل أكثر من مليون فلسطيني التمسك بأرضهم في شمال القطاع، رافضين النزوح القسري نحو الجنوب، وفق ما أكده المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ 17 سبتمبر الجاري. وفي المقابل، اضطر نحو 190 ألفًا للنزوح تحت وطأة القصف والمخططات الإسرائيلية الرامية إلى تفريغ القطاع من سكانه.
صمود يتحدى الإبادة
الكاتب المختص بشؤون غزة، علي أبو رزق، يرى أن وقف هذه "الحرب المجنونة" لا يتحقق إلا عبر ضغط سياسي وشعبي متزامن، قادر على تعطيل عمل السفارات الغربية الداعمة للعدوان وشل اقتصادات الدول المتواطئة. ويشير إلى تصريح نادر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أقر فيه بأن إسرائيل بدأت تشعر بعزلة اقتصادية حقيقية، معلقًا: "الإبادة ستتوقف حين يشعر نتنياهو وحلفاؤه بعزلة سياسية واقتصادية فعلية".
ويضيف أبو رزق أن غزة تُباد أمام أعين العالم، والتهجير القسري يتكرر عبر الأجيال، بينما يكتفي المجتمع الدولي بالمشاهدة. ويؤكد أن الإنقاذ الحقيقي يبدأ بفرض وقف العدوان، وفك الحصار، وفتح المعابر فورًا، لا عبر مساعدات مشروطة تُستخدم كأداة للتركيع. ويدعو الشعوب إلى تحويل غضبها إلى ضغط سياسي وقانوني وميداني يجبر الحكومات على اتخاذ موقف حاسم.
دعوات أردنية للتصعيد
النائب الأردني ينال فريحات شدد على أن الرفض الرسمي والشعبي لا يكفي، داعيًا إلى إجراءات أردنية حازمة تبدأ بتقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصفوف الشعبية استعدادًا للتضحية والصمود. كما طالب بتعزيز قدرات الجيش الأردني، وتنويع مصادر السلاح، وبناء اقتصاد مستقل يسمح بإلغاء اتفاقيات الطاقة والمياه مع إسرائيل.
خارجيًا، يرى فريحات أن الأردن قادر على لعب دور محوري في كسر الحصار عن غزة، وتفعيل الوصاية على المقدسات، ودعم صمود الضفة الغربية، وحشد موقف عربي ودولي رافض لمخططات التهجير.
القانون الدولي: أداة مواجهة مهملة
الخبير في القانون الدولي، أنيس قاسم، أكد أن إسرائيل تبنت منذ البداية سياسة الإبادة الجماعية، واستخدمت التهجير كأداة مباشرة، في انتهاك واضح للفقرة الثالثة من المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تنص على أن "خلق ظروف تؤدي إلى تدمير المجموعة السكانية كليًا أو جزئيًا يُعد إبادة".
ودعا قاسم النخب القانونية والسياسية حول العالم إلى إطلاق حملة دولية لمقاطعة إسرائيل حتى تمتثل للقانون الدولي، مشددًا على ضرورة اتخاذ إجراءات تردع الاحتلال وتوقف جرائمه. وأضاف أن الدول العربية ملزمة بقطع العلاقات مع إسرائيل ومحاصرتها، لكنه أقر بأن الاجتماع الأخير للقمة العربية الإسلامية كشف عجز 57 دولة عن تقديم الحد الأدنى من الدعم الإنساني لغزة، ما يعكس ارتهانها للهيمنة الأميركية.