في أغسطس الماضي، خرجت الحكومة عبر وزير السياحة والآثار لتعلن – وسط ضجة إعلامية مدروسة – "النجاح الكبير" في انتشال ثلاث قطع أثرية من خليج أبو قير، وكأنها تقدم للعالم اكتشافًا أثريًا غير مسبوق. لكن الحقيقة المرة أن هذه ليست سوى مقدمة لواحدة من أكبر الجرائم الثقافية في تاريخ مصر الحديث: التضحية بتراث عالمي كامل هو مدينة "كانوب" الغارقة، تمهيدًا لردمها لصالح مشروع توسعة ميناء عسكري وتجاري تديره القوات البحرية.
 

أكذوبة "الاكتشاف الجديد"
مصادر أثرية أكدت أن موقع "غرب كانوب" معروف بدقة منذ سنوات، بل إن القطع التي جرى استخراجها موثقة منذ أكثر من سبع سنوات في كتالوج كامل بالإحداثيات. ورغم ذلك، سوّقت الحكومة الأمر على أنه "كشف جديد"، بينما الهدف الحقيقي كان تهيئة الرأي العام لتقبل انتشال ونقل الآثار حتى يتسنى ردم المنطقة بلا اعتراض. إنها عملية تضليل إعلامي مكشوفة، تجعل من التراث واجهة دعائية لمخططات تجارية وعسكرية.
 

مصر تخرق اتفاقية اليونسكو
مصر وقعت عام 2001 على اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الغارق، التي تنص بوضوح على إبقاء الآثار في مواقعها تحت الماء كخيار أول، وعدم نقلها إلا عند الضرورة القصوى. لكن ما فعلته الحكومة يُمثل انتهاكًا صارخًا، إذ لم يكن الدافع حماية القطع الأثرية من خطر طبيعي، بل إزالة عقبة أمام مشروع توسعة الميناء. أي أن الحكومة لم تكتف بتجاهل الاتفاقية، بل استغلت الآثار لتسويق مشروع اقتصادي يقضي على التراث نفسه.
 

مشروع "التجريف الكبير"
مشروع تطوير ميناء أبو قير، الموقع مع شركة "ديمي" البلجيكية منذ 2021، يتضمن تعميق القناة إلى 23 مترًا وتجريف أكثر من 150 مليون متر مكعب من المياه، بكلفة 300 مليون يورو. ووفق الخرائط، فإن أجزاء من مدينة "كانوب" تقع مباشرة داخل نطاق الأعمال. هذا يعني أن ما يجري ليس تطويرًا بريئًا، بل عملية "تجريف كبير" ستبتلع مدينة كاملة يعود تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد.
 

خبراء يصرخون والحكومة تصم آذانها
أثريون وخبراء بحرية حذروا مرارًا من أن نقل القطع الأثرية يعرضها للتلف والضياع، خاصة في غياب متحف دائم للآثار الغارقة. لكن الحكومة، بدلًا من الاستماع لهذه التحذيرات، تجاهلتها تمامًا. مصدر من مركز الآثار البحرية بجامعة الإسكندرية أكد أن إبقاء القطع تحت الماء طوال 25 عامًا كان قرارًا علميًا مدروسًا، لكن مع توسعة الميناء، تم قلب المعادلة رأسًا على عقب: الأثر أصبح مجرد "عائق" يجب إزالته.
 

تراث عالمي في قبضة العسكر
ميناء أبو قير ليس مجرد منشأة تجارية، بل مشروع استراتيجي للقوات البحرية، التي أسست شركة "أبو قير للحاويات" وأعطت حق التشغيل لشركات أجنبية مثل "هاتشيسون" الصينية. بهذا، تصبح مدينة "كانوب" الأثرية رهينة قرارات عسكرية واقتصادية، حيث يُضحّى بالتاريخ لصالح الحاويات والسفن. إنه نموذج فج لتحويل التراث إلى ضحية لمصالح السلطة.
 

الخلاصة: جريمة ضد الحضارة
الحكومة لم تحتفل بانتشال آثار "كانوب" بل غطت على جريمة تخريب ممنهج لتراث لا يُقدّر بثمن. بدلاً من جعل المدينة الغارقة نقطة جذب عالمي للسياحة العلمية والثقافية، اختارت أن تبيعها في صفقة توسعة ميناء. مصر لم تُنقذ آثارها، بل خانتها. الصخب الإعلامي كان مجرد ستار دخاني يخفي جريمة كاملة الأركان: جريمة الردم والتجريف، جريمة خيانة التاريخ.