في قلب الريف المصري، يقف المزارع بشير العوضي، وهو في عقده السادس، يحدّق في أرضه التي أنهكتها المواسم المتلاحقة. الرجل الذي كرّس حياته للزراعة، لم يعد يثق أن حقل القمح أو الذرة أمامه سيجلب ما يسد رمق أسرته، بعدما باتت كلفة السماد والمبيدات والبذور تفوق قيمة ما يحصده. يقول العوضي: "لسنا سبب الغلاء، نحن فقط الحلقة الأضعف في سلسلة طويلة تبدأ بالمستورد وتنتهي بالمستهلك المرهق."
أزمة متجذرة
المزارع المصري، الذي كان يوماً ما الركيزة الأساسية للأمن الغذائي، يعيش اليوم في واقع مرير. فبين تضخم أسعار مستلزمات الإنتاج، من أسمدة وتقاوي وبذور ومبيدات، وارتفاع إيجارات الأراضي، لم يعد للزراعة جدوى اقتصادية. يكفي أن يعرف القارئ أن شيكارة السماد المدعوم لا يتجاوز سعرها 265 جنيهاً في الجمعيات الزراعية، بينما تُباع في السوق السوداء بأكثر من 1700 جنيه، بسبب شحّ الكميات الرسمية وتوجيه جزء كبير من الإنتاج للتصدير.
تشكّل الأسمدة وحدها أكثر من 30% من إجمالي كلفة الإنتاج الزراعي، وهو ما يجعل نقصها أو ارتفاع أسعارها بمثابة ضربة قاصمة للقطاع. ورغم تدخلات حكومية متفرقة، ما زالت الفجوة بين كلفة الإنتاج وسعر البيع شاسعة، لدرجة جعلت كثيرين يتساءلون: هل ما زال مستقبل الفلاح في مصر مضموناً؟
أعباء إضافية
المعضلة لا تتوقف عند الأسمدة. فالمبيدات الزراعية ارتفعت أسعارها بشكل كبير، مع تفاقم الأمراض والآفات جراء التغيرات المناخية، وارتفعت إيجارات الأراضي لتصل في بعض المناطق إلى 60 ألف جنيه للفدان، فضلاً عن ارتفاع أسعار الوقود والميكنة الزراعية، ما جعل كلفة الحرث والري والحصاد عبئاً فوق عبء.
وبينما يبيع الفلاح محاصيله بسعر بخس للتجار والسماسرة، تصل المنتجات للمستهلك النهائي بأسعار مضاعفة. إذ تشير تقديرات خبراء إلى أن 60% من الأرباح تذهب للوسطاء، فيما لا يحصل المزارع سوى على 40% من قيمة مجهوده وعرقه.
أصوات من الداخل
حسين عبد الرحمن أبو صدام، نقيب الفلاحين، يؤكد أن الوضع لم يعد محتملاً: "الأسمدة، التقاوي، المبيدات، كلها قفزت بشكل موجع. الفلاح اليوم أمام خيارين؛ إما أن يشتري من السوق السوداء بأضعاف السعر، أو أن يترك أرضه للبوار".
أما الدكتور عبد الحكيم نور الدين، أستاذ الاقتصاد الزراعي، فيرى أن المشكلة أعمق من مجرد أسعار: "القطاع الزراعي يحقق عوائد أقل من وضع الأموال في البنوك. الدعم غير عادل، والأسعار التعاقدية غائبة، والنتيجة أن المزارع لا يجد جدوى من الاستمرار."
زراعة بلا جدوى؟
تسهم الزراعة بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر 6 ملايين فرصة عمل، أي ما يقارب خمس القوى العاملة في الريف. ومع ذلك، يجد المزارع نفسه مُهمّشاً في معادلة اقتصادية قاسية.
التراجع المستمر في قيمة الجنيه منذ تعويمه عام 2016 فاقم المشكلة. فالمدخلات مستوردة بالدولار، بينما يبيع الفلاح إنتاجه بالجنيه في سوق خاضعة للمضاربة والاحتكار.
الفلاح بين الأمل والخذلان
في النهاية، يقف بشير العوضي على أرضه المرهقة، يتذكر أياماً كان فيها الحقل مصدر عز وفخار، لا ساحة خاسرة. ومع ذلك، لم يفقد إيمانه بأن الأرض ستظل يوماً ما ترد الجميل. "الزراعة روحنا… لكنها اليوم تنهار تحت أيدينا. نرجو أن لا تتركونا وحدنا."
وبينما تبقى أصوات الفلاحين أسيرة الوعود والتصريحات، يبقى السؤال مطروحاً: هل تعود الأرض لتكون مصدر خير وفخر، أم تظل عبئاً يحمله الفلاح المصري بلا عائد؟