أثار إعلان عدد من الجامعات الحكومية المصرية رفع مصروفات برنامج الاستعاضة السنية بكليات طب الأسنان من 15 ألف جنيه إلى 125 ألف جنيه سنويًا، صدمة واسعة بين الطلاب وأولياء الأمور، معتبرين أن القرار يحوّل التعليم الجامعي الحكومي من خدمة عامة إلى سلعة لا يقدر عليها سوى أبناء الأغنياء. هذه القفزة غير المسبوقة في المصروفات تأتي في وقت تعاني فيه الأسر المصرية من أزمة معيشية خانقة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، ما يجعل كثيرًا من الطلاب مهددين بالتسرب أو التخلي عن أحلامهم الدراسية.
 

مصروفات الاستعاضة السنية بكليات طب الأسنان
الاستعاضة السنية تعني مجالًا تخصصيًا داخل طب الأسنان، وهو الجزء المعني بتعويض الأسنان المفقودة أو التالفة، سواء بتركيبات صناعية متحركة (أطقم الأسنان) أو ثابتة (كالجسور والتيجان) أو زراعة الأسنان.
في الجامعات الحكومية بمصر، يوجد برنامج الاستعاضة السنية الإكلينيكي وهو غالبًا برنامج متميز (Special Program) داخل الكلية، يقدم تدريبًا عمليًا وإكلينيكيًا متطورًا للطلاب باستخدام أجهزة ومواد متقدمة.

هذه البرامج عادةً غير مدعومة بالكامل من الدولة، ولذلك تفرض الجامعات مصروفات إضافية على الطلاب الملتحقين بها، تختلف عن المصروفات الدراسية العادية.
 

ارتفاع صادم.. من 15 ألفًا إلى 125 ألفًا
وفقًا للبيانات الرسمية، كان برنامج الاستعاضة السنية في كليات طب الأسنان بالجامعات الحكومية يتطلب مصروفات لا تتجاوز 15 ألف جنيه سنويًا، لكن مع العام الدراسي الجديد ارتفعت الرسوم إلى 125 ألف جنيه، أي أكثر من 8 أضعاف في خطوة واحدة.

هذا الارتفاع لا يُمكن تبريره – بحسب خبراء التعليم – إلا بكونه سياسة حكومية تستهدف تحويل التعليم الجامعي إلى مصدر إيرادات بدلاً من اعتباره حقًا عامًا يكفله الدستور. فالجامعات الحكومية التي كانت ملاذًا للفئات المتوسطة والفقيرة، باتت الآن تسير في نفس مسار الجامعات الخاصة والدولية.
 

الطلاب بين الصدمة واليأس
الطلاب وأولياء الأمور عبّروا عن صدمتهم من القرار عبر صفحات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر كثيرون أن "أحلام دراسة طب الأسنان انهارت"، وأن "التعليم أصبح حكرًا على الأثرياء فقط".
أحد أولياء الأمور كتب: "كنت أحوش كل سنة عشان أوفر 15 ألف لابني، لكن 125 ألف دي مصروفات ما يقدرش عليها إلا رجال الأعمال".
آخرون حذروا من أن هذه القرارات ستؤدي إلى تسرب أعداد كبيرة من الطلاب، وتراجع الإقبال على الكليات العلمية التي تتطلب معدات وتجهيزات، لأن تكلفتها الباهظة لن يقدر عليها معظم المصريين.
 

خبراء: خصخصة مقنّعة للتعليم الحكومي
خبير التعليم العالي الدكتور محمود كمال أوضح أن ما يحدث هو "خصخصة مقنّعة" للتعليم الحكومي، مضيفًا: "الدولة لم تعلن رسميًا خصخصة الجامعات، لكنها ترفع الرسوم بشكل يجعل الطلاب غير قادرين على استكمال الدراسة إلا بالقدرة المالية".

وأشار إلى أن مبدأ "مجانية التعليم" المنصوص عليه في الدستور المصري أصبح حبرًا على ورق، إذ تتحول الجامعات الحكومية إلى مشاريع ربحية تسعى لتغطية عجز الموازنات، بدلًا من القيام بدورها الأساسي في توفير تعليم جيد لجميع المواطنين.
 

انعكاسات اجتماعية خطيرة
رفع المصروفات بهذا الشكل سيؤدي إلى زيادة الفوارق الطبقية داخل المجتمع، إذ ستقتصر دراسة التخصصات الطبية والهندسية المتقدمة على أبناء الأغنياء، بينما يُترك أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة خارج المنافسة.

كما أن هجرة الطلاب إلى الخارج باتت خيارًا مرجحًا، حيث قد يجد الطالب أن الدراسة في جامعة أجنبية بدولة عربية أو آسيوية بتكلفة أقل أو بجودة أفضل من نظيرتها في مصر، وهو ما يعني نزيفًا للعملة الصعبة وزيادة معدلات هجرة العقول والكفاءات.
 

أزمة التعليم في سياق اقتصادي مأزوم
قرار رفع مصروفات الاستعاضة السنية لا يمكن عزله عن الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تمر به مصر. فمع تضاعف الدين الخارجي الذي تجاوز 165 مليار دولار وتراجع قيمة الجنيه إلى أدنى مستوياته، تسعى الحكومة لتعويض عجز الموازنة من جيوب المواطنين عبر الضرائب والرسوم. التعليم، الذي كان يُفترض أن يُعتبر استثمارًا في المستقبل، أصبح أداة جديدة لتحصيل الأموال، ما يهدد مستقبل جيل كامل من الشباب.

وفي النهاية فرفع مصروفات الاستعاضة السنية بكليات طب الأسنان من 15 ألفًا إلى 125 ألف جنيه سنويًا، يمثل ضربة قاسية لمبدأ تكافؤ الفرص، ورسالة واضحة بأن التعليم في مصر لم يعد حقًا بل سلعة لمن يملك المال. وبينما ترفع الدولة شعار "الاستثمار في البشر"، تأتي السياسات الواقعية لتكشف عن تجريف للتعليم العام وتحويله إلى رفاهية للأغنياء، تاركة الطبقات الوسطى والفقيرة أمام خيارين أحلاهما مر: التخلي عن أحلامهم، أو الغرق في الديون من أجل استكمال دراسة أبنائهم.