منذ استيلاء عبد الفتاح السيسي السلطة، بات واضحًا أن أولوياته لا تنصرف لمواجهة التهديدات الخارجية، وعلى رأسها إسرائيل، بل تنحصر في سياسات داخلية قاسية أنهكت المواطن المصري. خدمات سياسية وأمنية وعسكرية قدمها لنظام الاحتلال الإسرائيلي في مقابل سلسلة إجراءات داخلية دمّرت الاقتصاد، أفقرت الشعب، واعتدت على التاريخ والهوية.
خدمات سياسية وأمنية لإسرائيل
على المستوى الخارجي، تحوّلت القاهرة في عهد السيسي إلى الحليف الأوثق لتل أبيب. تقارير متعددة تحدثت عن تعاون استخباراتي وعسكري غير مسبوق في سيناء، شمل السماح للطائرات الإسرائيلية بتنفيذ غارات داخل الأراضي المصرية ضد مجموعات مسلحة. سياسياً، لعب النظام المصري دور الوسيط المضمون لإسرائيل في كل جولات التصعيد مع غزة، محافظًا على "أمن الحدود" بما يخدم الاستراتيجية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، لم يطلق النظام أي خطاب مواجهة أو تحذير من الانتهاكات اليومية بحق الفلسطينيين.
الحرب على التاريخ والهوية: هدم المقابر والمساجد
في الداخل، انطلقت الجرافات الحكومية في عمليات إزالة واسعة طالت مقابر ومساجد تاريخية، خاصة في القاهرة التاريخية ومحيط الإمام الشافعي. تقارير صحفية وثّقت هدم عشرات القباب والمشاهد الأثرية بحجة "مشروعات الطرق"، وسط تحذيرات من اليونسكو بخطر فقدان معالم مسجلة في التراث العالمي. هذا النهج كشف أن النظام لا يتورع عن التضحية بتاريخ يمتد لقرون من أجل مشروعات إسفلتية مؤقتة. الكاتبة منى أبوسيت مثّلت بصوتها معاناة أسر عريقة بعدما جُرّفت مقابر أجدادهم بالجرافات.
اقتصاد مثقل بالديون وفقر متصاعد
اقتصادياً، أغرق السيسي البلاد في ديون غير مسبوقة. وفق تقارير البنك المركزي، تجاوز الدين الخارجي لمصر 165 مليار دولار بحلول 2023 مقارنة بنحو 43 مليار دولار عام 2013. هذا التضاعف أكثر من 3 أضعاف خلال أقل من عقد انعكس على الخدمات الأساسية، فيما خُصصت مليارات الدولارات لمشروعات رفاهية وبنية فوقية لا تضيف إنتاجية حقيقية.
في المقابل، ارتفعت معدلات الفقر لتشمل أكثر من 30% من المصريين بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بينما تتآكل الطبقة الوسطى بسبب الغلاء ورفع الدعم.
التعليم: عجز المعلمين وتشريد التخصصات
في قطاع التعليم، تعاني المدارس من عجز مزمن في أعداد المدرسين، قدّره مسؤولون بأكثر من 250 ألف معلم غير متوافرين فعليًا لسد احتياجات المدارس الحكومية. إلى جانب ذلك، صدرت قرارات بوقف تكليف خريجي بعض التخصصات مثل الفلسفة والفرنساوي، ما يعني تشريد آلاف الخريجين وتركهم بلا فرص عمل. وفي حين تتفاخر الحكومة بمشروعات "مدارس ذكية" أو منصات رقمية، فإن الواقع يشهد تكدس الفصول بما يصل أحيانًا إلى 70 طالبًا في الفصل الواحد.
الصحة: بيع المستشفيات وتقليص الموازنات
لم ينجُ القطاع الصحي من الضربات، حيث تقلصت موازنة الصحة إلى أقل من 1.2% من الناتج المحلي في بعض السنوات، رغم أن الدستور ينص على ألا تقل عن 3%. كما أعلنت الحكومة عن بيع بعض المستشفيات العامة ضمن خطط الخصخصة، في وقت يعاني فيه المواطن من ارتفاع أسعار الدواء ونقص الكوادر الطبية. الأكثر خطورة كان قرار وقف تكليف الأطباء الجدد، ما يعني حرمان المستشفيات من دماء جديدة في ظل هجرة أكثر من 10 آلاف طبيب مصري للخارج في السنوات الأخيرة بسبب تدني الرواتب وسوء بيئة العمل.
وفي المحصلة، يظهر أن نظام السيسي لم يخض يوماً معركة حقيقية ضد إسرائيل، بل اختار أن يجعل المواطن المصري عدوه الداخلي: يهدم تاريخه، يرهقه بالديون، يحاصره في التعليم والصحة، ويثقل كاهله بالغلاء والفقر. إنها سياسة حرب شاملة، لكن ضحيتها الشعب والهوية، فيما تُقدَّم الخدمات للخارج بلا ثمن، لتصبح معركة المصري اليوم هي معركة بقاء وصمود في وجه سلطة حولت الوطن إلى ساحة استنزاف داخلي.