في مشهد غير مسبوق داخل أروقة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ارتفعت أصوات مطالبة بكشف حقيقة واحدة من أخطر القضايا الحقوقية في مصر خلال العقد الأخير، بعد أن ألقى أحمد سالم، المدير التنفيذي لمؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، مداخلة شفهية دعا فيها الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة بشأن المقبرة الجماعية المكتشفة مؤخرًا في شمال سيناء.

المداخلة التي جاءت ضمن الدورة الستين للمجلس، وبالتعاون مع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وضعت سلطات عبدالفتاح السيسي في مواجهة مباشرة مع تقارير صادمة تتحدث عن جرائم إعدام خارج نطاق القانون، ودفن مئات الضحايا في مقابر سرّية بإشراف قوات الجيش المصري خلال سنوات النزاع مع تنظيم "ولاية سيناء".
 

تفاصيل المداخلة أمام الأمم المتحدة
قال سالم في خطابه: "نحن أبناء سيناء الأصليون نعرف جيدًا معنى الاقتلاع من الأرض والمعاناة الممتدة لعقود. لقد كُشف مؤخرًا عن مقبرة جماعية تضم أكثر من 300 جثة، وأدلة دامغة على انتهاكات جسيمة ترقى لجرائم حرب، بما في ذلك الإخفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب والإعدام".

وشدّد على أن السلطات تنكر هذه الوقائع، رغم وجود مقاطع فيديو مسرّبة تُظهر جنودًا ينفذون إعدامات ميدانية بحق معتقلين مقيّدي الأيدي. وأضاف أن الوقت قد حان لفتح تحقيق دولي، وإجبار السلطات على الاعتراف والبدء في عملية مساءلة وطنية.
 

تقرير “قتلوا بدم بارد”.. حقائق صادمة
قبل يومين فقط من هذه المداخلة، أصدرت مؤسسة سيناء تقريرًا بعنوان "قتلوا بدم بارد" بالتعاون مع منظمة Forensic Architecture البريطانية. التقرير وثّق بالأدلة البصرية والتحقيقات الميدانية وجود مقبرة جماعية جنوب العريش، حيث دفن ما لا يقل عن 300 جثة خلال الفترة الممتدة بين 2013 و2022.

التحقيق اعتمد على صور أقمار صناعية وتحليلات ثلاثية الأبعاد، إلى جانب شهادات مباشرة، بعضها من عناصر ميليشيات مسلحة موالية للجيش أقرّت بالمشاركة في نقل المعتقلين إلى موقع الدفن. وأكدت الشهادات أن توصيف المعتقل بأنه "تكفيري" كان كافيًا للحكم عليه بالموت، دون أي محاكمة أو إجراءات قانونية.
 

جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية
خلص التقرير إلى أن الوقائع الموثقة ترقى إلى جرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف، نظرًا لاستهدافها مدنيين في سياق نزاع مسلح. كما أشار إلى احتمال تصنيفها جرائم ضد الإنسانية إذا ثبت أنها جاءت ضمن سياسة دولة ممنهجة.

المؤسسة طالبت مجلس حقوق الإنسان بسرعة تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة، مؤكدة أن غياب المحاسبة الداخلية في مصر يفرض ضرورة تدخل دولي عاجل.
 

معاناة الأهالي والمختفين قسريًا
التقرير لم يكتف بعرض الأدلة التقنية، بل ركّز على البعد الإنساني المأساوي، حيث يعيش مئات الأهالي في حالة انتظار مرير لمعرفة مصير ذويهم المختفين منذ سنوات. شهادات عديدة أكدت أن العائلات فقدت الأمل بعد أن بات من شبه المؤكد أن أبناءها صُفّوا في تلك المقابر.

أحد الشهود قال: "جارنا يبحث منذ سبع سنوات عن ابنه دون جدوى، وهو مقتنع الآن أنه دُفن هناك في تلك الحفر". هذه القصص المؤلمة ترسم صورة لمجتمع يعيش جرحًا مفتوحًا لن يلتئم دون عدالة.
 

دعوات للمحاسبة ووقف الدعم العسكري
التقرير دعا المجتمع الدولي إلى وقف تصدير السلاح والمساعدات العسكرية لمصر، مؤكدًا أن استمرار الدعم الخارجي يشجع على المزيد من الانتهاكات. كما طالب بالإفراج عن المعتقلين الذين لا تتوافر ضدهم أدلة مادية، والكشف عن مصير آلاف المختفين قسريًا.

وقال أحمد سالم: "لا يمكن أن تُبنى عدالة أو أمن حقيقي على أساس الجرائم والانتهاكات، وإنما الحقيقة والإنصاف وحدهما كفيلان بإعادة السلام للمجتمع السيناوي".

https://www.youtube.com/watch?v=KMDRXg4Zfsk