في 2024 و2025 صعدت القاهرة خطواتها نحو «تسويق» سواحلها الاستراتيجية لمستثمرين خليجيين كحل سريع لأزمة المصاريف والعملة الصعبة.
بعد صفقة رأس الحكمة مع صندوق إماراتي بقيمة معلنة إجمالية تُقارب ٣٥ مليار دولار، تعود الحكومة الآن لتُعرّض شمال سيناء وجنوب البحر الأحمر، وعلى رأسها شبه جزيرة رأس بناس، لصفقات مماثلة مع قطر والكويت (أو وسطاء منهما) في محاولة لملء خزائنها.
هذه السلسلة من الصفقات لم تكن حلاً هيكليًا، بل تبدي نمطًا متكرِّرًا لتبادل «أصول وطنية» مقابل سيولة آنية.
الحقائق الاقتصادية التي تسوق لها الحكومة
حكومة الانقلاب تصف هذه الصفقات بأنها «استثمارات ضخمة» ستخلق وظائف وتصبّ أموالًا طازجة في الاقتصاد.
صرّح رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي خلال توقيع صفقة رأس الحكمة بأن المشروع سيدفع نحو ١٥٠ مليار دولار على الأقل عبر مراحل التنفيذ، وأن مبالغ أولية بالفعل وصلت في دفعات مثل دفعات ٥ مليارات دولار في فبراير ومارس ٢٠٢٤.
لكن اللافت أن كثيرًا من تلك المبالغ في حقيقتها تحويل لودائع خليجية موجودة بالفعل في بنوك مصر تحويل من دولارات مودعة إلى جنيه مصري أو استثمارات، وليس تدفق نقدي دولي جديد بالمعنى الكامل.
لماذا رأس بناس؟ الموقع الاستراتيجي أم الحاجة للسيولة؟
رأس بناس خليجياً وقربه من مضائق الملاحة البحرية يجعل منه هدفًا جاذبًا للاستثمار السياحي والعسكري الاستراتيجي، وهي ميزة تستغلها السلطة لبيع الفكرة باعتبارها قيمة مضافة.
لكن مصدر الحاجة واضح؛ مصر تعاني منذ سنوات من عجز في العملة الصعبة، وديون متنامية، وضغوط على الاحتياطي الأجنبي أدت إلى إجراءات تقشفية وتحويل أرصدة خليجية إلى استثمارات، فبدلًا من سياسات إصلاح منتظمة طويلة الأجل، تعتمد السلطة على تبادل أراضٍ وممتلكات وطنية مقابل سيولة آنية.
مقارنة سريعة.. رأس الحكمة، رأس جميلة، الموانئ والمطارات
ما حدث في رأس الحكمة ليس حالة منفردة؛ هناك تقارير عن خطط مماثلة في رأس جميلة ورحلات تفاوضية على موانئ ومطارات وبعض أراضٍ في سيناء والساحل الشمالي.
المستثمرون الخليجيون جاؤوا بالفعل بعروض تتضمن تحويل ودائع أو استثمارات مضمونة بأصول ومزايا تشغيلية.
الفرق الوحيد غالبًا هو الشعار الرسمي: "استثمار تنموي" مقابل واقع "بيع حق الاستغلال طويل الأمد"، مع ضبابية حول نصيب الدولة من الأرباح، وضمانات الحِفظ للسيادة والمرافق الحيوية.
مدبولي كرر مرارًا أن الصفقات ستُدرّ أموالًا طازجة وأنها نموذج لجذب الاستثمار، معلنًا وصول دفعات أو وعود مالية وتأكيدات على وجود لجان فنية وقانونية لمراجعة الصفقات.
لكن التباين بين الصياغة الرسمية وتفاصيل التحويل؛ تحويل ودائع موجودة، وعد استثمارات مستقبلية غير مضمونة، نسب مشاركة بالأرباح غير شفافة، يثير تساؤلات حول مدى جدوى هذه العروض للفائدة العامة مقابل مصالح الضالعين.
لماذا لا ينتهي التفريط؟ أسباب بنيوية ملموسة
- أزمة نقدية هيكلية: عجز متكرر في العملة الصعبة وديون خارجية هائلة يدفعان الدولة لتفضيل حل قصير الأجل بدلاً من إصلاحات مؤلمة.
- سياسة مركزية للمشروعات الضخمة: رهان السلطة على مشروعات رأسية تجذب رأسمالًا كبيرًا بدلًا من بنية اقتصادية منتجة ومستدامة.
- غياب الشفافية والمساءلة: صفقات تُبرم بسرعة وبنصوص تجارية مع جهات سيادية، من دون رقابة برلمانية حقيقية أو مشاركة مجتمعية.
هل تقترب مصر من الانهيار؟ قراءة موضوعية للنهاية المحتملة
يمكن القول إن التدابير الحالية تؤخر الانفجار لكنها لا تعالجه؛ تبادل الأصول مقابل سيولة مؤقتة يُخفض من رصيد الوطن الاستراتيجي ويزيد الاعتماد الخارجي، ما يترك الاقتصاد هشًا أمام صدمات جديدة، هبوط السياحة، هجمات بحرية، تقلبات أسعار الطاقة.
مصطلح الانهيار مبالغ فيه سياسياً، لكنه ليس مستبعدًا اقتصاديًا إذا استمرت السياسات نفسها، إذ يمكن أن تقود سلسلة صفقات بلا إطار إصلاحي إلى تآكل الاحتياطي، تزايد الدين، واستنزاف موارد الأجيال القادمة.
المشهد الراهن يطرح سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا: هل تبادل الأراضي الوطنية من أجل إبقاء مؤشرات الاقتصاد مستقرة مؤقتًا هو ثمن مقبول؟ الواقع يقول إن صفقة رأس بناس، قد تتحول إلى حلقة جديدة في تاريخ طويل من التفريط الذي يدفع ثمنه المواطن العادي.